قصص قصيرة

الأربعاء، 15 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

الغزال فى المصيدة قصة محمود البدوى











القرية الآمنـة


     قال رسـول الله ـ عليــه الصـلاة والسـلام ـ فى عمـر بن الخطــاب .. " لم أر عبقريا يفرى فرية " .. ولم نر بطل قصة مثل عبد المنعم أفندى الذى تدور حوله حوادث القصة ..
    أرسله والده بعد البكالوريا إلى فرنسا ليدرس الطب ، وعاد من مونبلييه فى السنة الثانية من دراسته لنشوب الحرب العالمية الأولى ولوفاة والده لأنه وحيد أبويه من الذكور .. وقد ترك له أبوه أخوات شقيقات لم يتزوجن بعد وأعباء العمل فى الريف ..
     وقد عاد ليرعى الشقيقات أكثر من عودته لأرض والده ، وكان أبوه عمدة وجده عمدة ..
      فلما عرضوا عليه العمدية لم يتحمس لها أولا ، ثم خشى على حال الفلاحين فى قريته من الأسماء التى كانت معروضة .. خشى أن يجىء من يسومهم بجهله وسطوته العذاب ، فقبلها كرسالة يبلغ بها ما يريد لمن فى رعايته ، فقد وضع فى عنقه طوقا لايشعر به الكثير من الناس .
     وكان الإنجليز يحكمون البلاد بغطرستهم ويسيطرون سيطرة كاملة على البوليس ـ ولهم طريقتهم فى القمع لمن يقف فى طريقهم ـ ومع أنهم لم يصلوا بسطوتهم إلى الصعيد وإلى ريفه على الأخص ، لأن الريف بعيد عن المظاهرات والاجتماعات ..
      مع هذا .. فإن أول شىء فعله عبد المنعم أفندى وهو عمدة .. ألا يعرض أحــدا من أهـل بلده إلى هوان أو عدوان فى مركز أو مديرية ..
      وكانت قريته تقع على النيل مباشرة فى الخط الشرقى بعيدا عن شريط السكة الحديد .. ووراءها وبجانبها قرى كثيرة .. يصعد بعضها إلى الجبل الشرقى ..
      وتكثر فى هذه القرى حوادث القتل والسلب والنهب والسطو على العزب وسرقة المواشى .. فى النهار والليل ، فأصبحت قريته وسط كل هذه القرى .. يصيبها من رشاشها وبلواها الكثير .. ولكنه وقف بحزم وصرامة ليبعدها عن مساوىء هذا الجوار .. ولتظل القرية آمنة .
    وكان يعرف أن حوادث السرقة تحدث فى الليل للمواشى وهى عائدة من الحقول ، أو عندما تكون مربوطة فى الزرائب .. والذى يعود بالمواشى عادة هم الغلمان وفى أيديهم العصى ويوضع فى أيديهم السلاح ، وأرسل من الخفراء من يحرسهم على الجسور .. وعمل للزرائب دوريات وكان هو على رأسها ..
     وكان للقرية سوق فى يوم السبت .. ومن الساعة السابعة صباحا يكون هو فى السوق .. ويكفى أن تهل طلعته لتستقر الأمـور ..
     وكان يجعـل التجار الأغراب الذين يبيعون القماش ولوازم الفلاحين .. يطوون بضاعتـهم ويرجعون إلى بلادهم قبل ظلمة الليل .
     وأنار القرية كلها بالفوانيس .. الفوانيس مقامة على رأس الدروب ووسطها .. وجعل الفلاح القادر يدفع لغير القادر .. فى تكاليف هذه الانارة وصيانتها ..
     كما خصص لكل ضرب من يعنى بنظافته من روث البهائم العائدة من الحقل .. ومن التراب والهباب .. فبدت القرية متألقة نظيفة كأنها من قرى فرنسا ..
    وعندما يعلو النيل فى زمن الفيضان .. تكون شهور الأمان فى كل القرى .. لأن النيل يغمر الحقول والحياض بزبده الأسود وتمتلىء الحياض ويصبح السير على الجسور فقط .. فيتحدد خط السير بالنسبة للصوص ، ولذلك يتوقف نشاطهم فى هذا الفصل من السنة .. يتوقف كلية ومع هذا فإن عبد المنعم أفندى كان يخرج بجواده ومعه شيخ الخفراء وبعض الخفراء على الحمير .. ويمرون بكل العزب المجاورة .. ويقطعون الجسر بكل طوله ودورانه ..
     وكانت له هيئة على الجواد كفارس .. حتى انك تعجب كيف سيكون هذا طبيبا لو أتم دراسته .. مع أنه لايحمل شيئا من طباع الطبيب ولا خصـائصه .. وإنما خلق ليكون فارسا بكل طبـاع الفارس ..
***
     وكان العمد فى القرى المجاورة يحسدونه على حزمه وسطوته .. وطريقته فى معالجته الأمور .. ويقولون أنه يستعين بقطاع الطرق ورجال الليل فى إعادة المسروقات ..
   ولكن ببصيرته وحدة ذكائه وخبرته كريفى .. كان يصل إلى أشياء كثيرة يجهلها الناس .. فسارق الجاموسة التى يجرها غلام .. لا يسطو على عزبة !.. وقاطع الطريق لتاجر القمـاش العـائد من السوق على حمـار .. لايسـطو على خزانة ..!
     ولذلك كان يتوصل سريعا إلى معرفة المصدر ..
***
     وزاره الشيخ عبد اللطيف ودعاه إلى فرح ابنه .. فسر العمدة وبارك الابن ..
     وقال الشيخ عبد اللطيف كالمتردد لأنه يعرف طباع العمدة ..
     ـ وتسمح يا حضرة العمدة .. سنجىء بغازية ..؟
     فردد العمدة :
     ـ غازية ..!!
     واضطرب الشيخ عبد اللطيف .. لرنة الاستنكار التى لاحظها فى صوت العمدة ..
     ـ أيوه .. يا عمدة ..
     ولانت ملامح العمدة وتطلع إليه مبتسما .. وسأله :
     ـ ياشيخ عبد اللطيف .. ولكن أرجوك أن تنومها بعد الفرح .. فى بيتك .. ولكن ليس فى سريرك ..!!
     وضحكوا ..
     ـ ستنام يا عمدة .. عند جليلة ..
     ـ أحسنت الاختيار .. فجليلة بيتها نظيف وزوجها مسافر .. ولماذا البيات وخليها ترجع البندر فى نفس الليلة ..
     ـ الغازية .. ستمكث هنا اسبوعا .. يا حضرة العمدة ..
     ـ أسبوع ؟! .. ولماذا كل هذه المصاريف ..؟
     ـ طلب الحريم .. يا عمدة .. والابن وحيد ..
     ـ ربنا يبارك ويجعله فرح القرية كلها ..
***
     وقبل منتصف الليل .. وفى أول ليلة من ليالى الفرح أطل العمدة على المكان فوقف الحاضرون جميعا وخيم الصمت .. ثم أخذ العمدة يصافح الموجودين من أهل القرية وبارك أهل العروسين ..
     وقالت الغازية .. عندما رأته .. للشيخ عبد اللطيف ..
     ـ من هذا الذى وقف له الناس جميعا ..؟
     ـ إنه العمدة ..
     ـ سأرقص أمامه ..؟
     فرد الشيخ عبد اللطيف ..
     ـ حاذرى .. سيدبحك ..
     ولكنها مشت متهادية بكبرياء تحرك صاجاتها وتهز وسطها لترقص أمامه .. ترقص له وحده ..
     ووقفت أمامه فعلا .. وعندما أصبحت على بعد خطوة منه .. شعرت بهيبته .. فتخشبت ولم تبد .. حركة واحدة ولا رنة صاج .. وزاغت عيناها .. واضطربت .. وظلت فى مكانها جامدة كالتمثال .. وخيم الوجوم على السامر ..
     ثم سمعت من يصيح بها .. ويصفق لينقذ الموقف وأمسك بيدها الشيخ عبد اللطيف .. وحركها إلى صف شباب القرية .. ورقصت أمام عدلى أصغر أبناء العمدة طويلا لتخفى خجلها مما حل بها .. وداعبها عدلى بالحديث ونقطها ليسرى عنها ..
***
     ودخل العمدة بيته على غير عادته يصلى العصر .. وكان يصليه تحت فى الدوار .. فوجد صالة البيت ممتلئة بالفلاحات .. وأصابهن بمرآه ما يشبه الذعر .. فاضطر أن يعود من حيث أتى ويصلى تحت .. وفى الليل قال لزوجته وظل ابتسامة مع نبرات صوته :
     ـ أليس هـذا العيب وأنت المتـعلمة أن تؤمنى  بالخرافات ..؟
     ـ أية خرافات ..؟!
     ـ رأيت فلاحة تتخطى عقدا من الخرز .. لتحمل ..! وكل هؤلاء جئن للحمل ..!!
     ـ أجل ..
     وضحكت .. زوجته بعزوبة ..
     ـ أعرف أنها خرافة .. ولكن إيمانهن بهذه الأشياء يجعلها أكثر نفعا لهن من كل أدوية الطب .. إنهن يسترحن نفسـيا بعد تخطى هذه التعويذة .. ولا شىء فى هذه التعويذة على الاطلاق ينفع الحمل .. وهن يأتين إلى هنا .. بعد أن فقدن الخير من الطب كما يذهب الناس إلى أضرحة الأولياء بعد أن يفقدوا الخير من القائمين عليهم ..
     واستطردت بابتسامة .. وفى صوتها حماسة ..
     ـ شكوى من مظلوم ومضطهد ومعذب لصاحب الضريح .. بعد فقد الثقة فى كل الناس .. ولو كنتم تنفعون الناس ولمسوا منكم صلاحية مالجأوا للأضرحة قط ..
     ـ ولكنا ننفعهم أو بعضنا ينفعهم على الأقل .. لاتجعلينى أشعر بالمرارة ..!
     ـ لا أتكلم عنك .. وسيرتك على كل لسان .. ووجود هؤلاء النسوة فى بيتك هو انتصار لك ..
     ـ ولكن من أعطاك هذه التعويذة ..؟
     ـ جدتى .. رحمها الله ..!
     وضحك ..
***
     وذات ليلة سمع الخفير فى الدرك صرخة .. وعلى أثرها أقدام شخص يعدو فى الدرب بسرعة وجرى الخفير وراءه .. وكانت المسافة بينهما طويلة .. وخشى الخفير ألا يلحقه ويمسك به .. لأن من يلاحقه كان أسرع منه جريا .. وخشى من كان يجرى أن يلحقه الخفير والدرب مضـاء بالفوانيس فأطلق طلقـة على أول فانوس صادفه فأطفأه .. وخيمت الظلمة .. وساعدته هذه على الجرى أكثر .. حتى خرج من الدرب والقرية إلى الفضاء الواسع .. وأصبح لايسمع أقدام الخفير وراءه ولاحسه ..
     وأول شىء صادفه فى الظلمة الطاغية .. بعد أن خرج من القرية وهو يعدو .. مبتعدا عن الجسر .. بياض أجران القمح .. وتذكر الشيخ عبد المطلب حارس الأجران .. فشعر قلبه بالاطمئنان والأمان .. فأسرع إليه ودخل عريشه ..
     وكان الرجـل الطيب قد سمع الطلقة التى لم يسمع مثلها منذ سنوات .. ورأى الرجفة فى وجه الشاب .. فلم يسأله لحنكته عن شىء وأخذ يرحب به ثم فرش له لينام ..
     وكان العمدة قد سمع الطلقة فى أثناء جولته المعتادة بخفرائه ورأى الشبح وهو يجرى ويدخل الأجران .. وعلم أن الطلقة انطلقت فى الدرب وأطفأت الفانوس .. وأن خفير الدرك لم يستطع أن يلحق بمن أطلق النار .. بسبب موقعه من الدرب فى ذلك الوقت .. فقد كان فى جنوبه عندما انطلقت الطلقة فى شماله .. وأنه فى تحركه أمام أبواب الدرب سمع صرخة خرجت من فم امرأة مذعورة ..
      فجرى نحو مصدر الصوت .. وقرع ثلاثة أبواب فى الدرب متلاصقة .. حددها كمصدر للصوت .. ولكن واحدة من الثلاث لم تحدثه بأنها صرخت .. وعندما جاء شيخ الخفراء كان نفس الرد ..
      وكان هذا الانكار متوقعا من النسوة الثلاث .. فلم يلح عليهن شيخ الخفراء .. ما دام الصراخ اقترن برجل دخل البيت فى عتمة الليل وسكونه .. ولم يكن هذا الرجل لصا .. لأنه ليـس فى هذه البيوت الثلاثة ما يغرى اللص على السرقة ..
     ووقف العمدة بجواده على الجسر .. يرقب الشبح وهو يدخل بين صفوف الأجران المتراصة .. فأطلق طلقة فى الهواء .. وسمع صوت الشيخ عبد المطلب .. يثنيه عن المضى فى الضرب فكف .. ونزل من فوق الجسر واتجه إلى الأجران ..
     ووجد العمدة الشيخ عبد المطلب جالسا على جرن مدروس .. بعيدا عن العريشة فترجل عن جواده وسلم عليه وصرف الخفير بالجواد فقد انتهت جولة الليل .. وشد الخفير الجواد والحمار وانطلق إلى الحوش ..
     وقال الشيخ عبد المطلب :
     ـ مرحبا .. يا عمدة .. 
     ـ مرحبا .. يا شيخ عبد المطلب .. لقد عرفت صوتك .. وأقلعت بعدها عن الضرب ..
     ـ الحمــد لله .. فعلــت الخير .. فمن كان يجرى لم يكن لصا ..!!
     ـ من يكـون الذى يجــرى فى ظلمـة الليـل .. إن لم يكن هذا ..؟
     ـ يكون يجرى من الكلاب .. او من الخوف .. الليل رهيب ياعمدة فى الريف .. ولهذا تخرج أنت وتقوم بدورتك الليلية لتشيع الأمان فى قلوب الناس .. وتطرد عنهم شبح الخوف .. الخوف رهيب يا عمدة ..
     ـ ولماذا أطلق النار ..؟
     ـ النار أطلقها على فانوس ..! لأول مرة يشعر الإنسان بأن الظلمة .. أحسن من النور .. ولماذا خلق الله الظلمة ..
     ـ وأين هو يا شيخ عبد المطلب ..؟
     ـ إنه عندى ..
     ـ أريده وجئت لآخذه ..
     ـ فى الصباح .. سآتى به .. وأسلمه بيدى ..
     ـ ولكن جئت لآخذه الآن ..
     ـ لقد احتمى بى يا حضرة العمدة .. وأنت تعرف طباع الفلاحين فى مثل هذه الحالة ..
     ـ وأنت تعرف طباعى يا شيخ عبد المطلب .. ولم يحدث قط أن أفلت مذنب أبدا من قبضة يدى ..
     ـ إنه غير مذنب .. فلا هو لص .. ولا سارق .. ولا قاتل .. ولا رجل ليل .. ليس من هذا الصنف من الناس إطلاقا .. ليس من هـؤلاء إطلاقـا .. وحتى لو كـان من هؤلاء واحتمى بى فأنا لا أسلمه ..
     خرجـت من فم الشيخ عبد المطلب هذه الكلمات الأخيرة كالقذيفة .. وتغير لونه ..
     وظهر الغضب على وجه العمدة .. فلأول مرة فى حياته يسمع مثل
هذا التحدى الصارخ .. ولأول مرة يعجز عن تنفيث غضبه أمـام وجه الشيخ المضاء بنور التقوى .. وأمام شيخوخته المتهالكة ..
     وأدرك الشيخ عبد المطلب عجز العمدة عن تنفيث غضبه .. وأنه أخطأ فى التعبير .. وشعر بالأسى يحز فى نفسه .. وأخضلت عيناه بالدموع ..
         وقال العمدة يسرى عن الشيخ عبد المطلب ويلاطفه :
      ـ الطلقة يا شيخ عبد المطلب زلزلت كيان نفسى الساكنة .. ولابد أن أعرف مصدرها وسببها لأستريح ..
     ـ ستعرف وتستريح .. فاطمئن ..
     ونهض العمدة وسلم على الشيخ عبد المطلب .. ولأول مرة يدخل بيته كاسف البال حزينا .. ولاحظت زوجته ذلك .. ولكنها لم توجه إليه أى سؤال ..
     وأدركت بفطنتها أن الطلقة النارية التى سمعتها هذه الليــلة أطفأت النـور والأمان اللذين كانا يضيئان سماء القرية ..
***
          وقبل نور الفجر .. تسلل عدلى أصغر أبناء العمدة من عريشة الشيخ عبد المطلب وهرب من القرية ..
     ولما علم الشيخ عبد المطلب بأن عدلى خرج من العريشة فى فحمة الليل وهرب .. شعر بالأسى الشديد والألم .. لأنه لم يستطع أن يوفى بوعده للعمدة .. ويسحب عدلى من يده ويسلمه لوالده ولكن الابن خذله وضيع كل ما دار فى رأسه من خواطر ..
      لقد كان يود من تأخير اللقاء بين الولد وأبيه إلى الصباح .. أن تهدأ ثورة الغضب فى الوالد بعد الطلقة وظرف الساعة .. وأن يجلوها الصباح .. ويحق له فى هذه الساعة أن يسترحم ويرجو الصفح ..
     ولكن عدلى خذله وهرب .. وجعله يقف هذا الموقف الشائن لأول مرة فى حيـاته .. ولا يدرى الآن كيف يواجه العمدة أو يواجهه العمدة .. فرش الحصير أمام العريشة بعد أن توضأ وصلى ..
***
     وفى الصباح علم العمدة .. بأن الذى كان مختبئا فى عريشة الشيخ عبد المطلب هو ابنه عدلى .. وأنه غافل الشيخ عبد المطلب فى سحرة الليل وهرب ..
     وأرسل العمدة وراءه من يبحث عنه فى كل القرى والعزب المجـاورة .. ولكن عــدلى ترك المنطـقة كلها وسـافر إلى جهة بعيدة ..
      وظل عدلى هاربا .. وخيم الوجوم على بيت العمـدة .. وكانت
والدته أشد الناس حزنا .. وحل بها المرض والصمت الأخرس .. كانت تود أن تلوم زوجها ولكنها لم تستطع ..
     وأرسل العمدة ابنه توفيق ليبحث عن عدلى فى القاهرة عند كل الأهل والصحاب ومن يعرف أنه يتردد عليهم .. وعاد توفيق بعد ثلاثة أسابيع دون أن يقف له على أثر ..
     وضاعف ذلك من هول الموقف ..
***
     وكان عدلى قد كشف سره كله وحكى للشيخ عبد المطلب كل مـا حـدث فى هذه الليلة .. ولماذا أطلق النار على الفانوس ..
     كان قد واعد " الغازية " وهى ترقص فى اليوم الرابع من الفرح .. على زيارتها فى الليل فى بيت جليلة حيث تنام كل ليلة .. ولم يدخل البيت من الباب .. وإنما قفز اليه من شونة تبن .. وشونة التبن أوصلته إلى بيت الدلالة بدلا من بيت جليلة التى تقيم عندها الغازية ..
      وجاءت الصرخة من الدلالة .. فتراجع عدلى سريعا خوفا من الفضيحة وأصبح فى الدرب .. ولما شعر بالخفير وراءه أطلق النار على الفانوس .. وجـرى كل ما جرى بعد ذلك .. بالصورة التى أرادها القدر .. فالبيوت الثلاثة المتلاصقة والمتشابهة فى أسطحها وبنيانها عصمته من الزلل ولكنها أوقعته فى حيرة ولقنته درسا لن ينساه ..
     وطمأنه الشيخ عبد المطلب وسرى عنه ..
     وكتم الشيخ عبد المطلب السر الذى حدثه به عدلى ..
     ولما شاع الخبر فى القرية على وجوه كثيرة ، نفاه كلية .. وقال لهم إن عدلى سافر فجأة لأنه سرق مبلغا كبيرا من خزانة أبيه .. ومع ذلك ظلت الأقاويل تدور .. ثم أنستهم الأيام بضجيجها وطحنـها بعض أو كل ما حـدث فى هذه الليلة ..
***
     وذات ليـلة خرج العمدة فى جولته الليلية المعتادة ومعه خفير واحد .. وأبعد هذه الليلة حتى خرج عن نطاق القرية وحدودها إلى حدود القرى المجاورة .. وكان الليل صحوا لاتلبده الغيوم .. ولكن ريح الشتاء عاصفة ..
     وفجأة دوت طلقات نارية شديدة .. اختلطت مع أزيم الريح وأصبحت كعواء الغيلان .. وتنبه الجميع للصوت الجديد الذى لم يألفوه فى حياتهم ولا عهد لهم به .. واستيقظ من كان نائما .. وتحرك من كان جالسا .. ومشى من كان واقفا .. وجاء الخبر أسرع من البرق ..
     ـ عبد المنعم أفندى قتل ..
     ـ كيف ..؟!
     ـ دخل فى معركة رهيبة مع اللصوص فى باطن وادى الجرف .. وقتلوه ..
     وتحركت الجموع على الجسر من أهل القرية ومن أهالى كل القرى المجاورة كانوا يسمعون به ويحبونه جميعا لعدله ونظامه ورحمته بالضعفاء وشدة بطشه بالأقوياء .. ويعتبرونه عمدتهم الحقيقى .. وكم ذهبوا إليه للحكم والمشورة .. والنصيحـة .. وما خالفوه أبدا فى كل ما حكم وقرر .. وكم كان حكمه صائبا .. ورأيه عظيما .. كم كان ذلك .. ولهذا أحبوه وخرجوا الآن لملاقاته حيا أو ميتا ..
     سدت الجموع المتحركة الجسر وتحت الجسر .. وثار التراب والغبار وأصبحت الرؤية مع ظلمة الليل .. ضعيفة ولكن الجموع ظلت تتحرك فى إصرار ..
     وبرز من تحت الجسر .. الحصان الأشهب ، حصان عبد المنعم أفندى وعليه فارسه .. كان متلفعا من الريح والغبار .. ولكن عينيه كانتا تبرقان فى الظلمة بوهج شديد .. وهج الانتصار ..
     وكان الخفير وراءه يربط ثلاثة فى رسن الحمار .. ثلاثة من اللصوص .. جـرح منهم اثنان .. واستسلم الثالث بكامل قوته وسلاحه ..
     وكان قطيع الماشية المسروقة وكله من خيار البقر .. قد دفعه فارس الجواد ناحية .. حتى يستوى على الطريق السهل الموصل للقرية .. وفى الساحة الواسعة وأمام دوار العمدة ، سيأتى أصحاب هذا القطيع وكلهم من القرى المجاورة لاستلام بقرهم وثيرانهم .. لايوجد فى هذا القطيع بقرة واحدة من قريته .. وكم شعر بالفرح لهذا ..
     هللت الجموع على الجسر وصفقت وأطلقت الأعيره النارية ابتهاجا بعودة العمدة وانتصاره .
***
     وفى الخريف .. عندما يتساقط ورق الشجر فى القرية .. وتسكن
الريح .. سمع أهل القرية جواد عبد المنعم أفندى وهو يصهل .. صهل ثلاث مرات .. فى نغم واحد .. وكان بعد كل صهيل يحرك رأسه ..
     وتنبه الناس لصهيل الجواد .. كان عبد المنعم أفندى وحده على الجسر .. لم يكن معه خفراء ..
     وأمام ساحة الدوار .. اعتمد على ساعد ابنه توفيق وهو ينزل من فوق الحصان ..
     وفى الليل شعر بدبيب المرض وكانت زوجته تروح وتجىء كالمجنونة فى رحبات الدار .. تقدم له هذا الشراب وتمنع ذاك ..
     واشتاق إلى عدلى .. بلوعة الأب لابنه .. وفى صباح ، فتح عينيه ووجد عدلى بجواره يقبل يديه ويمرغ رأسه فى صدره .. ومسح الأب بيده على رأس ابنـه .. مسح بيده على رأس ابنه وكأنه يباركه ويدعو له .. أو كأنه يسلمه الزمام .. فقد كان توفيق مشـغولا بكليتـه فى الزراعـة وطيبا إلى درجة لاتؤهله لمسك الزمام ..
***
     ولم يطل مرض عبد المنعم أفندى .. وقبل أن ينتهى الخريف اسـتراح مـن كل الأعبـاء .. وكانت جنازته كحياته شغلت كل النـاس ..
***
     وبعد أيام الحداد .. شاهد أهل القرية ابنه عدلى على الجسر .. فوق الجـواد الأشهب ومعه ثلاثة من الخفراء .. وفى أيديهم السلاح ..









=================================    
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم المصرية فى 8 سبتمبر 1984 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002

=================================

الـطبـيـب
                                  
     حدث منذ سنوات بعيدة .. أن سطا ثلاثة من عتاة اللصوص ـ فى ليلة شتوية مظلمة ـ على قصر ثرى من أثرياء الصعيد ..
      وتنبه لهم خفراء القصر رغم شدة الظلام .. أحس بهم الخفراء قبل أن يصلوا إلى الخزانة .. واشتبكوا معهم فى معركة نارية ..
      ولكن اللصوص كانوا أشد مراسا وأقوى سلاحا ..
     فاضطر صاحب القصر لنفوذه أن يستنجد بعساكر المركز والمديرية وأسرعت قوة كبيرة وحاصرت اللصوص وقبضت عليهم .. ولكنهم كانوا فى ساعة الاشتباك قد قتلوا اثنين من العساكر وجرحوا ثلاثة .
     وسيق اللصوص الثلاثة إلى المركز فتلقفهم العساكر بالضرب المبرح والركل انتقاما لما حدث لزملائهم فى المعركة واشفاء لغل صدورهم ..
***
     وحول اللصوص والدماء تنزف منهم إلى السجن ..
      وخشى مدير السجن المغبـة لشدة الاصابات وأكثرها ظاهرة للعيان .. فحولهم إلى المستشفى الحكومى ..
     وكشف عليهم الطبيب المختص ودون كل ما وقـع عليـه نظره
ولمسه كطبيب خبير من إصابات وجروح فى اللحم والعظم .. كتب هذا فى تقرير دقيق مفصل ..
     وشاع كل ما كتب فى التقرير فى أرجاء المستشفى بعد ما رفعه الطبيب إلى رئيسه مدير المستشفى ..
     وكان حكمدار البوليـس فى مكتب مدير المستشفى بسـبب ما وقع .. فاطلع على التقرير وهاله ما دون فيه ونهض مسرعا إلى حجرة الطبيب وفى عينيه شرر الغضب ..
      وابتـدره بقوله فى غلظـة :
     ـ ما هذا .. يا دكتور ..؟!
     ولوح بالتقرير ويده ترتعش غضبا ..
     ورد الطبيب بهدوء مالكا أعصابه :
     ـ تقرير من طبيب مختص عن اصابات حدثت للناس ..
     ـ ولكن هؤلاء الناس لصوص .. وقتلة ..
     ـ القتلة ستحاكمهم المحكمة يا سعادة الحكمدار على جريمتهم ولا أحد غير القضاء هو المختص بمحاكمتهم .. فلا أحاكمهم أنا ولا سعادتك ..
     ـ ولكن التقرير فظيع .. وواضح الإدانة على العساكر ..
     ـ دونت الحقيقة خالصة من كل غرض ..
     ـ لم يحدث مثل هذا فى تقرير يكتبه أطباء الحكومة ..
     ـ لكنه حدث ..
     ـ تقول هذا بكل هوء وأنت لاتعرف العواقب ..
     ـ لو فكرت فى العواقب .. ما زاولت هذه المهنة قط ..
     ولانت ملامح الحكمدار وغير من لهجته تحت إصرار الطبيب وعناده ..
     ـ يا دكتور .. أنت فى سن ابنى مراد .. وأنا أنصحك الآن كما أنصح ابنى .. وأرى لصالحك أن تغير من بعض ما كتبته فى هـذا التقرير ..
     ـ هذا لايمكن أن يحدث ..
     ـ هل فكرت أن هذا سيذهب بهيبة السلطة .. ويشل حركتها .. وإذا ضاعت الهيبة ضاع الأمن فى البلد .. وبهذه الهيبة نحميك أنت قبل أن نحمى غيرك ..
     ـ ليس الأمر على النهج الذى تصورته سعادتك .. ولو اتبع من بيده القانون لاستراحوا وأراحوا .
     ـ يعنى نترك المجرمين والقتلة وقطاع الطرق يعيثون فى الأرض فسادا .. وإذا وقعوا فى أيدينا نربت " نطبطب " على ظهورهم .
     ـ لم أقل هذا ولا أقبل أن أدافع عن مجرم ولا سفاح .. ولكنى أقرر الحقيقة كطبيب .. فى عمل من أخص خصائص مهنتى .. فمن الذى يكشف عن الجريح . الطبيب أو غيره ..؟ انه عمل الطبيب وحده ..

     ـ ولكن ما كتبته سيجر .. إلى أمر لاتدركه أنت فى هذه الساعة سيجر إلى ضياع السلطة وشيوع الفساد ..
     وأشعل الحكمدار سيجارة .. واستطرد :
     ـ طيب عدم بعض العبارات .. مثل جرح عميق بطول .. وتهتك فى قفص الصدر .. وكسر فى الترقوة .. ومثل هذا كثير يحتاج إلى التعديل ..
     ـ ولا حرف ..
     ـ يابنى .. تعبت معك .. سأرى مدير المستشفى وقد يثنيك عن عزمك .. وتقبل منه النصح ..
     وجاء مدير المستشفى ولكن الدكتور " اسماعيل " ظل على إصراره ورفض ..
     وأخيرا قال له المدير :
     ـ يا بنى أنت متزوج حديثا .. وأصبحت أبا لطفل .. وعليك مسئولية الأبوة .. وأرجو أن تقدر المسئولية .. وأنت لاتعرف ما يجرى تنقصك التجارب ..
     وسقط مدير المستشفى فى نظر الطبيب الشاب .. سقط سقطة أبدية ..
     وسأل الطبيب الشاب مديره :
     ـ وما الذى تريده منى ..؟
     ـ تغير من لهجة التقرير الحامية ..!
     ـ أغير الحقيقة .. وأكتب الباطل .. أزور .. هل هذا هو ماتعلمته من الدكتور عبد العزيز اسماعيل .. والدكتور على ابراهيم .. والدكتور محمد صبحى .. والدكتور أحمد شفيق .. هل تعلمت من هؤلاء الأفذاذ التزوير .. حتى أكتبه .. حرام عليكم حرام .. وحرام أن يصل الهوان بنا إلى هذه الدرجة .
     ـ يعنى تصر على رأيك ..؟
     ـ إلى يوم القيامة ..
     وتناول المدير التقرير وخرج غاضبا .. وعلم زملاء الدكتور اسماعيل بما حـدث .. فانقسموا قسمين قسم رأى التغيير .. وقسم رفض ..
     وشاع أمر التقرير فى المستشفى بين المرضى والجرحى والممرضات والأطباء .. كان ما فعله الدكتور إسماعيل بقوله الحقيقة هو شىء شاذ وغير مألوف فى حياة المستشفيات ..
***
     وعندما رجع الدكتور إسماعيل إلى بيته .. لاحظت زوجه حاله .. وعلمت بالخبر .. فظهر على وجهها الألم .. وحاولت كتمان آلامها فى

تحركاتها فى الشقة وانشغالها بطفلها وعملها البيتى ..
     ثم لما سألها عن رأيها قالت له :
     ـ من رأيى أن تنزل عند رغبتهم ..
     ـ هكذا بكل بساطة ..!
     ـ نعم ..
     ـ يا لخيبتى فيك .. كان يسعدنى أن أسمع عن سيدة مصرية من هذا الجيل وقفت بجانب زوجها فى وجه العاصفة حتى تمر ..
     ـ أنت تعيش بخيالك وبعيدا عن عذاب العيش ولقمة العيش وهو الشىء الذى تشعر به المرأة .. وتعمـل له الحساب قبـل الرجـل ..
     ـ ولماذا هذا المنظار الأسود .. وتتوقعين الشر ..؟
     ـ لأنى أرى فى كل ما حولى .. انتصار الشر .. وسيبقى صراع الخير والشر أزليا .. سيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته ..
     ـ ولهذا علينا أن نقاوم الشر بكل ما أعطانا الله من قوة .. حتى نقضى عليه ..
     ـ لو أراد الله الخير الخالص فى هذه الدنيا .. لما أبقى الشيطان فى الأرض بعد أن عصاه وأخرجه من الجنة .. أبقاه يعيش مع الإنسان فى الأرض لأنه جل وعلا هو الذى خلق الإنسان ويعرف طبيعة تكوينه عندما ينزع إلى الخير .. وعنـدما يكون شرا من الوحش فى ضراوته إذا نزع إلى الشر ..
     ـ يعنى أبقى الشيطان على الأرض لأن الحياة الدنيا لاتستمر فى مسيرتها بغير شيطان وشياطين ..!
     ـ نعم .. والا فكيف تختلف عن الجنة .. فى الجنة النعيم المقيم .. وفى الأرض الخير والشر وإذا قاومت الشر وحدك وأنت ضعيف ستخذل حتما .. تلك سنة الحياة .
     ـ ولكن أشعر بكل الناس معى ..
     ـ أين هم .. أنى لا أرى حتى زميلا لك من أطباء المستشفى .. جاء ليزورك ..؟
     ـ سترينهم ..
     وسمعت قرعا على الباب فمشت اليه وهى تتوقع زيارة صديق ممن يزورونه فى بيته .. ولكنها وجدت خالة لها قادمة بزيارة من الريف فانشغلت بها .. ودخل إسماعيل إلى حجرته بعد أن حيا الضيفة ورحب بها ..
     وفى اليوم التالى زاره وكيل الحكمدار فى بيته .. وكان الدكتور اسماعيل يتصور أنه جاء ليرجوه كغيره تغيير ما كتبه فى التقرير .. ولكنه وجـده يشجعه على شجاعته ووقوفه فى وجه العاصفة التى أثيرت حوله ..
     وأخيرا قال له وكيل الحكمدار فى حماسة وهو يبتسم :
     ـ يابنى أنت لم تر جدك " عبد المنعم " ولكنى رأيته .. فيك كل طباعه وكل صفاته .. أنا كنت ضابطا صغيرا فى النقطة ببلدكم .. وطوال مدة خدمتى فى النقطة والمركز لم يدخل فلاح واحد من أهل قريتكم نقطة ولا مركز ..
     عاش جدك عبد المنعم ومات وهو عمدة ولم يذهب فى حياته فلاح واحد من أهل القرية نقطة ولا مركز .. وكان يقول لى :
     ـ أهين أهل بلدى .. وأجرهم إلى سجن المركز .. لا .. قد يخرج الطيب منه شريرا فى يوم وليلة .. لا لن يحدث هذا وأنا بصحتى أن وظيفتى كعمدة فى حسم الأمور هنا .. وإلا فلا خير فينا للناس المساكين الذين لاحول لهم ولا قوة ..
     كان يعالج الأمور بطريقته الفذة .. سرقت جاموسة من " شريفة " وجاءت تشكو له ..
     فيقول لها بابتسامته الوضاءة :
     ـ طيب روحى يا شريفة ..
     وفى الصـباح التــالى تعــود الجاموسه إلى بيت " شريفة "..
     وهكذا ما يحدث من سرقة وعراك مع الفلاحين .. وما يحدث فى سوق القرية .. وفى غيطانها ونجوعها .. وفى زمن الفيضان وفتح الخزانات .. والنزاع على الرى .. وجنى القطن .. وضم المحصول .. وحراسة الأجران والجسور ..
     مئات الأشياء التى كان ينهيها بقوة مراسه وهيبته وتجاربه ومعرفته بخلق الفلاحين وطباعهم ..
     وكانت قريتكم أول قرية أضيئت شوارعها بالفوانيس وأول قرية لم تحدث فيها حادثة قتل واحدة طوال مدة حكمه التى جاوزت عشرين عاما .. كنا نسميها القرية الآمنة .. فأنا يا بنى لم أدهش لفعلتك ولم أستغرب كما فعل غيرى فأنت خليفة والدك وجدك ..
     وشكر الدكتور اسماعيل وكيل الحكمدار وسره أن يكون من رجال القوة فى المديرية من هو على هذه الصفات الحميدة ..
***
     وبعــد ثلاثة أســابيع نقــل الدكتــور إسماعيــل إلى " أرمنت " ..
     ولما علمت زوجته بأمر النقل تركته إلى أهلها .. ووقف هو على رصيف المحطة وحده ينتظر القطار الذى سيقله إلى مقر عمله الجديد ..
     ولمح شبحا يتحرك فى سكون الليل .. والسنافورات تتحرك والريح تعوى وتصفر فى الأسلاك ..
     ولمــا اقتــرب عرف الدكتور إسماعيل أنه معاون المحطة ..
     وقال المعاون وفى صوته رنة الأسى :
     ـ جئت أودعك يا بنى وأسلم عليك وأحيى شجاعتك فى هذا الزمن المنكود ..
     ـ شكرا يا عم " سمعان " فيك الخير ..
     ـ لا تتصور أنهم انتصروا عليك بنقلك .. أبدا أنت المنتصر والناس تتصور دائما لغباوتها .. أن الحق مطموس وضائع .. والشر ينتصر على طول الخط .. وهذا خطأ ..
     اذهب الآن إلى المدينة بعد ما عرفوا فعلتك تجد الجميع يفخر بك ويصفق لك .. دخلت فى قلوب الملايين .. وسترى هذا الأثر فى عملك لو فتحت عيادة خاصة .. الناس لاتنسى الشجاعة أبدا ولا موقف البطل .. ولا تغفر قط للجبان الرعديد .. حتى وان كانوا هم فى أعماقهم جبناء لأنهم يقدرون من عبر عن شعورهم وما عجزوا هم عن فعله .. ومن هنا تكون صفات البطولة للبطل . أنه الفرد الذى تكلم وعبر عن خلجـات الجماهير الضائعة فى تيه الحياة ..
     ولا تفكر بطريقتهم ولو ضربنا وعذبنا كل مجرم وسفاح .. ما كانت هناك محكمة ولا محاكم فى الأرض ..
     ـ شـكرا ياعم " سمعان " ملأتنى ثقة فى جوانب نفسى .. ولكن
أشد ما يؤلمنى الآن ألا أجد زميلا واحدا جاء ليودعنى على المحطة ..
     ـ اعذرهم .. يا بنى .. قد يكون لهم عذرهم .. وقد يعوضك الله فى مقرك الجديد من هو خير منهم ..
     ـ شكرا لكلماتك الطيبة .. شكرا ..
     ـ جاء القطار .. وقد حجزت لك أحسن المقاعد .. وخذ منى هذا التذكار البسيط ..
     وتناول الدكتور اسماعيـل التذكار من المعاون وعيناه مخضلة بالدمع ..
     وكان القطار وهو يدخل المحطة يصفر وأنوار عرباته تتوهج فى الظلمة ..


===================================  
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم المصرية فى 26|11|1983 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
===================================   
المشلولة

     أعطانى الحاج أبو اسماعيل المفتاح .. وسافرت فى قطار الظهر .. وكانت الشقة فى شارع " المقريزى " وكنت أعرف الشارع والحى ولكن لم أدخل الشقة من قبل أبدا ..
     وتأخر القطـار خمس ساعات كاملة لانقلاب عربات بضاعة فى الخط .. ووصلت محطة القاهرة فى الثلث الأول من الليل بدل أن أصل قبل الغروب ..
     وركبت المصعد إلى الشقة .. وضغطت على الزرار وكانت فى الدور الخامس .. ولما وضعت المفتاح فى القفل استعصى علىّ .. وسمع حركة القفل فى الباب شخص فى الداخل .. ففتح لى الباب وهو يقول :
     ـ تفضل ..
     وجرت الشغالة إلى الداخل بعد أن فتحت الباب وهى تصيح :
     ـ البيه .. وصل يا ستى ..
     ـ البيه .. وصل ..
      وجلست على أول مقعد فى الصالة .. وأنا أحاول أن أحدد كل ما وقع من خطأ .. فأنا أخطأت فى الشقة .. وقد أكون أخطأت فى العمارة كذلك .. فالعمارات فى هذا الشارع متشابهة فى الطراز والحجم .. ومع يقينى بوقوع الخطأ ولكنى بقيت فى مكانى .. أتطلع إلى ما حولى على ضـوء ثلاثة مصـابيح أشعلتهـم الشـغالة مرة واحدة .. كأنها تحتفل بقـدومى .. ساعة حائط كبيرة تدق .. وصورة زيتية لمنظر فى النيل ..
     ثم صورة لشاب فى الثلاثين من عمره .. وقد تهندم أمام المصور وبرز فى أحسن حالاته .. وكان وجها سمينا .. وعيناه تتطلعان إلى شخصى ، مهما حاولت الابتعاد عنه .. ومن الغريب أننى وجدته قريب الشبه منى إلى حد مذهل ..
     وكنت قد وضعت جانبا .. كيسا من التفاح اشتريته وأنا خارج من المحطة فى ميدان رمسيس .. فأخذته الشغالة إلى المطبخ وهى تصيح ..
     ـ البيه .. جاء لك بتفاح حلو .. يا ستى ..
     ـ مرسى .. خليه .. يتفضل يا سنية .. أنا صاحية ..
     وعادت الشغالة تقول لى :
     ـ تفضل .. عند الست .. هى صاحية ..
     ـ حاضر .. بعد قليل .. لتأخذ هى راحتها أولا ..
     وأدركت من مصدر الصوت أن الست مستريحة فى أول باب فى مواجهتى من الصالة .. وبعد أن فتحت الشغالة الباب ودخلت وخرجـت منه .. استطعت أن أرى بعـض محتويات الحجرة .. كالسرير .. وطاولة الزينة .. ومرآة الدولاب .. التى تكاد تعكس الشخص النائم فى الفراش ..
     ولم يكن طابع الفضول هو الذى أبقانى فى المكان بعد أن أدركت مقدار ما وقعت فيـه من خطأ .. وأننى دخلت مكانا لايمت لى بأية صلة .. ولا أعرف أحدا فيه ..
     وإنما وجدت شيئا رهيبا .. فوق طاقتى يسمرنى بالمقعد الذى أجلس عليه .. كما أن التعب وسوء الحظ لازمنى طوال السفر .. بعد أن تعطل القطار جعلانى فى حالة من البلادة التى تلازم الكثير من الناس إذا وضعتهم الأقدار فى مثل موقفى ..
     فقد وجدت بعد التعب ومشقة السفر .. مقعدا مريحا أرحت جسمى عليه فى شقة جميلة .. هادئة .. ليس فيها صراخ أطفال ، ولا صوت راديو .. ولامأتم وندب تليفزيونى ..
     جلست فى مكانى شبه نائم وشبه حالم .. ونسيت كل ما يترتب على وجودى فى هذا المكان من عواقب .. فمجرد صرخة فزع من السيدة التى بالداخل إذا وقع بصرها على شخصى .. سيكون فيها هلاكى ..!
     دار هـذا الخاطر فى رأسى وأنا جالس ، ودار ما هو أكثر منه احتمالا .. ولكن مع ذلك بقيت ساكنا أتطلع إلى ضوء المصابيح الثلاثة التى تتراقص فى الصالة .. وقدرت انقطاع النور .. وهذا يحدث الآن فى أحياء القاهرة فى كل ساعة وحين ..
     وفى الظلام الأسود تكون كل أركان الجريمة قد نسجت خيوطها حولى .. بإحكام يفوق كل تطلعات الذهن البشرى ..
     وفى جيبى المسدس .. وأنا كريفى أتحرك به دائما لصق محفظتى .. ولكن مـن يفهـم هـذا .. من يفهم .. إذا دارت عجلة الظلام .. وطال دوارها .. وامتد وامتد ..
     ولكن النور لم ينقطع .. وظلت مصابيح الكهرباء تتلألأ ..
***
       وطلبـت مـن الشـغالة كوب ماء .. فنظرت إلى وجهى وقالت بنعومة :
     ـ سأعمل لك قهوة .. يا بيه .. ظاهر عليك التعب .. وكانت نصف .. ووديعة ..
      وقلت لها وهى تتحرك :
     ـ كتر خيرك ..
     وغابت تصنع القهوة .. وخيم السكون المطبق على الشقة .. ولم أعد أسـمع كلام السيدة .. ولم أر من مكانى حركة لفراشها على السرير .. لعلها نامت أو استسلمت لرقادها ..
     وجاءت الشغالة بالقهوة وهى تقول :
     ـ أتريد حضرتك شيئا آخر ..؟ أنا مروحة ..
     ـ مروحة ..؟
     ـ نعم .. والعشاء .. على السفرة ..
     ـ مروحة .. الآن .. كيف ..؟
     ـ أروح بالليل لأولادى .. يا بيه ..
     ـ والست تعرف هذا ..؟
     ـ نعم وسأحضر بدرى .. قبل الشمس .. لأن الست تعبانة وحضرتك رايح شغلك .. فلا نتركها وحدها ..
     ـ وكيف تتركينها الآن وحدها .. وهى تعبانة ..؟
     ـ لأن حضرتك عدت من السفر .. جاء للست خطاب بأنك ستحضر مساء اليوم ..
     ـ مساء اليوم ..!!
     ـ وقرأته الست بدرية .. قريبة الست .. ولما علمت بحضورك مساء اليوم روحت .. وجعلتنى أبقى إلى أن تحضر ..
     ـ والست تعبانة إلى هذه الدرجة ..؟
     ـ إنها لاتتحرك من سريرها .. ركبها ..
     ولم تشأ كشابة من بنات البلد الحسنة التهذيب والتى تحسن انتقاء الألفاظ .. أن تقول مشلولة .. بل اكتفت بأن قالت ركبها تعبانة ..
     وقلت لسنية .. حتى لا أكشف نفسى بأنى غريب ومتورط ..!
     ـ والسيدة بدرية لاتزال فى مسكنها القريب منا ..
     ـ إنها فى العمارة 34 جنبنا على طول ..
     ـ جنبنا على طول .. إذن أنا أخذت مفتاح الشقة فى العمارة 32 ولم يحدث أى خـطأ .. وقد أكون فى شقة توفيق .. ولكن توفيق أعزب .. ويعيش وحده .. وسافر منذ سنتين .. وقد ترك المفتاح لأبيه الحاج أبو اسماعيل لينزل فيها فى غدوه ورواحه إلى القاهرة .. وليحافظ عليها .. وعلى نظافتها .. ولم يشأ قط أن يؤجرها مفروشة .. لأن فى هذا ما يعد ابتذالا لوضع الأسرة فى الصعيد .. لأن الحاج أبو اسماعيل نفسه لايحـب أن ينزل فى فنادق القاهرة بعد أن لمت كل من هب ودب ..!
     وظلت الشغالة تعود وتذهب إلى المطبخ .. ثم دلفت إلى حجرة الست .. وعادت مرة أخرى إلى المطبخ ..
     وسمعتها تقول وهى على الباب الخارجى :
     ـ تصبح على خير .. يا بيه ..
     ـ تصبحى على خير .. يا سنية .. تعالى بدرى ..
     ـ قبل الشمس .. وسأصحيك ..
     وسحبت الباب الخارجى وراءها وخرجت ..
***   
     وبقيت وحدى .. اتطلع إلى الجدران .. وإلى السكون المخيم .. وخيل إلىَّ أن الست نامت .. ولكنى سمعت صوتها وهى تقول :
     ـ تعال .. يا منير .. أنا مشتاقة إايك .. وصاحية .. وطيبة ..
     ـ كنت عندك .. منذ لحظات .. ووجدتك نائمة ولم أشأ أن أوقظك .. ورأيتك أكثر جمالا ونضارة مما كنت .. وليس على وجهك أى علامة للمرض ..
     ـ دخلت .. ورأيتنى ..؟
     ـ نعم .. منذ لحظات ..
     ـ ولم أحس بك ..!
     ـ كنت نائمة ..
     ـ إننى دائما .. أنام وأصحو .. وعيناى سادرتان هدمنى المرض .. بعد زواجنا بستة أشهر فقط سافرت يا منير ولم أشأ أن أحرمك من هذه المنحة .. منحة ألمانيا الغربية .. إنها فرصة العمر ..
     ووجدت لسانى يردد كلامها :
    ـ فرصة العمر ..
    ـ ولكن فرصة العمر .. انقلبت علىَّ .. وطحنتنى .. ثلاثون يوما مرت كثلاثين سنة من العذاب .. وأنا على هذه الحالة .. لا أقوى على الحركة .. ولا حتى التفكير .. تعطلت فيها كل خلايا حياتى ..
     وانقطع صوتها ..
     وسألت نفسى منذ شهور وهى مريضة ومشلولة هذه المسكينة .. وفى غياب زوجها ، أى عذاب تتحمله الأنثى وأى مشقة .. وتظل صابرة ..
     وسألتها :
     ـ والدكتور .. ما رأيه ..؟
     ـ دكتور .. إيه .. يا منير .. الدكاترة كانوا زمان .. الله يرحم الدكتور عبـد العزيز إسمـاعيـل عــالج المرحـوم والدى من الجلطة فى أسبوع .. قضى عليهـا تماما .. وقال له روح بقيت كالحصان ..!
     الدكاترة كانوا زمان .. الدكتور الذى كان سيعطينى الحقنة اليوم لم يحضر .. لازم كان بيتفرج على الكرة .. فيه لعب اليوم ..!
     ـ أنزل وأجىء لك بواحد ..
     ـ بقينا فى نص الليل .. ليس كل واحد ينفع .. إنه متخصص ويعطى الحقنة فى عظـم الركبة .. وأعطيه خمسة جنيهات على كل حقنة .. ولكن رأى مـع ذلك أن الفرجة على الكرة أنفع وأحسن ..! الكل وحياتك يا منير .. يكتب روشـتات .. نفس الدواء ونفس النوع .. شهر وأنا فى عـذاب .. رحم الله أنور المفتى .. كان فخرا لمصر .. ولكنه ذهب .. كما يذهب كل طيب ونافع .. ويبقى ..
     ـ ولكنى رأيتك متقدمة .. ووجهك أكثر جمالا ..
     ـ صحيح ..؟
     ـ حقا .. هذا ما رأيته ..
     ـ لكن صوتك متغير .. يامنير .. يا منير .. من البرد هناك ..
     ـ ثلج ..
     ووقع علىَّ السؤال كلوح الثلج .. وكيف ميزت الآن .. والآن فقط بعد كل هـذا الحـوار الذى دار بيننـا اختـلاف صوتى .. كيف أدركت الآن فقط .. لعله تأثير المرض عليها .. أو لعل صوتى فى جرسه قريب من صوت زوجها .. أو لعل المرض فى شدة وطأته عليها جعلها تنسى صوت زوجها .. وشكل زوجها .. كل ذلك شبه ..
     وعاودت تقول :
     ـ كنت أرعى همك وتعبك وأقول ملعون أبو الوظيفة والبعثات التى تجعل الزوج يترك زوجته فى الشهور الأولى من زواجهما ويغيب سنة وسنة .. وسنة ..
     ـ والآن الحمد لله لقد رجعت ..
     ـ رجعت بعد إيه ..
     ـ كله خير .. والخير فى ارادة الله ..
     ـ أشعر الآن بقرب الشفاء .. بل لقد شفيت .. وعندما قرأت عمتى بدرية رسالتك التى تعلن فيها قدومك اليوم .. سرت فى كيانى رعشة .. وأحسست بساقى ينبض فيهما الدم .. وتندفعان للحركة .. هذا ما سيحدث هذا ما سيحدث ..
     وصمت .. وسرحت أنا فى دوامة الأحداث .. ثم سمعتها تقول بغيرة الأنثى .. وبلهجة مؤكدة :
     ـ والحقائب لن يفتحها سواى ..!
     ـ بالطبع لن يفتحها غيرك ..
     ـ وأين هى ..؟
     ـ وضعتها سنية فى غرفة المكتب ..
     ـ هذا أحسن .. ويدل على حسن تصرف .. إنها مدربة جاءت اليوم .. وجاء الخير على قدومها .. جئت معها فى نفس اليوم ..
     ـ بنت طيبة ..
     ـ آه .. لو شفت .. رأيت منهن العذاب .. كل واحدة بشكل .. التى تنظف لاتطبخ .. والتى تطبخ لا تنظف .. والتى تجىء برضيعها والتى تذهب بدون سبب .. والتى تخلف الميعاد .. والكاذبة واللصة على طول الخط .. وأخيرا جاءت الست مفيدة بهذه وتبدو طيبة .. ما الذى نعمله بعد أن عدت بالسلامة كله يهون .. 
     سمعت منها كل هذا الكلام .. وحرصت كل الحرص على ألا أكشف نفسى ..
     أقول لها بأنى دخلت شقتها غلط فى غلط .. وأننى لست منيرا .. ولست زوجها ولا أمت له بأية صلة .. وأننى مجرد عابر .. جاء فى سماء القاهرة لمدة يومين أو ثلاثة ليشترى جرارا .. وما يحمله من نقود فى جيبه جعلته لاينزل فى فندق والشكر للحاج أبو إسماعيل صاحب الفضل والمروءة ..
     إن كشفت نفسى سيؤذيها .. وهى فى أشد حالات مرضها وربما قضت عليها المفاجأة ..
*** 
     ودقـت الســاعة الواحدة بعد منتصف الليل .. وانقطع ما بيننا من حوار ..
     وأيقنت هى أننى دخلت عليها .. واطمأنيت على صحتها .. وأن حالتها الصحية هى التى جعلتنى لا أثقل عليها بالكلام .. ولا أقرب منها أكثر مما اقتربت لأن كل ذلك فى السـاعات الأولى من اللقاء قد يؤذيها .. وقد يسبب لها النكسة .. وما هو شر منها ..
***   
     وبعـد دقات السـاعة جالت عيناى فى الصالة ورأيت صورة لسيدة .. معلقة فى اطار ذهبى .. وكانت فوق رأسى مباشرة ..
     فلما نهضت رأيتها .. إنها هى دون شك .. فما من أنثى تحمل مثل
هذه الفتنة .. وهذه النضارة فى العينين والشفتين .. وهذه البشاشة فى الوجه ..
     إنها صورتها هى وحدها .. وقدرت أنها بعد الزواج .. أو قبل الزواج بسنة على الأكثر .. وكانت فى فستان وردى وعلى الصدر مشبك من الزمرد الأخضر .. وفى الأذنين قرط مما تلبسه الإسبانيات .. وهن فى ساعة الذروة من البهجة والإحساس بنشوة القلب ..
     يا إله السموات والأرض .. من الذى يشل هذه الحسناء وهى فى أوج نضرتهـا .. وأوج شبـابهــا .. سـوء الإدارة .. حــادث فى السوق .. فى الطـريق .. ســارق سلسلة .. سائق تاكسى يشتغل بلطجيا فى ظل رخصة ..
     يا إله السموات والأرض .. أى جمال خلقت وأى إبداع فى الأنثى كونت وأعطيت الحياة ..
     رأيت نظرة متأنية فى عينيها تحمل معنى التأنيب .. جعلتنى أخجل من وقفتى فجلست .. عدت كما كنت إلى مقعدى .. وأنا ما زلت فى كامل ملابسى ..
***  
     كانت الشقة من ثلاث حجرات والصالة التى أجلس فيها .. وكان كل شىء أنيقـا ولامعـا .. ولم يكن ذلك من سنية ولا لأن البيت ليس فيه أطفال .. وإنما لأن الست كما خمنت كانت تحرص على الهدوء وعلى نظافة بيتها إلى حد كبير ..
     ولم أكن وأنا جالس أسمع حركة الشارع .. ولا حركة البيوت .. كان السكون يخيم إلى درجة الموت .. ومن خلال هذا السكون الشامل سمعت صوتها :
     ـ أجئت بكل ما طلبته منك يا منير ..؟
     ـ بالطبع .. بالطبع .. وهى فى حقيبة يدى ..!
     ـ تصورتك ستنسى .. سيمفونيات بيتهوفن .. وبشارف تركية حتى لو ذهبت من أجلها إلى استانبول ..
     ـ وكيف أنسى لك طلبا .. وأنت مهجة حياتى .. وأعرف تعلقك بالموسيقى التركية .. منذ الصغر .. ومعى شريط .. لبعيون .. عازف الطنبور ..
     ـ بعيون أنه كنز .. أو تعلم .. وسيريح سماعه أعصابى .. أحسن من ألف حقنة ودواء والآن تعال لتنام ..
     ـ حـاضر .. سـأتوضـأ .. أولا .. وأصلى .. وأقرأ لك سورة من القرآن ..
     ـ سنقرأها معا ..
     ونهضت كأنى ذاهب لخلع بدلتى .. وسألتها وأنا أتثاءب ..
     ـ المهندس توفيق لايزال ساكنا هنا فى العمارة ..؟
     ـ المهندس توفيق فى الشقة التى فوقنا على طول ..! لكنه مسافر فى بعثة .. والشقة فاضية .. وأبوه يأتى من وقت لآخر ..
     وشعرت بما يشبه الدوار .. بعد أن أدركت خطأ فعلتى .. فقد أدرت المفتاح فى الشقة التى تحتها مباشرة .. لأن المصعد أخرجنى فى الطابق الرابع بدل الخامس .. لأنى ضغطت على الزر خطأ ..
     هـكذا دخلت كصاحب بيت فى شقة سيدة مريضة .. فأى عبث للأقدار ..
     ان السيدة المريضـة تنتظر زوجهـا .. وقد وصل الزوج فى شخصى .. طبقا لمواصفات الخطاب .. فهـل أكشف نفسى الآن ..؟ لا .. ثم .. لا .. قد يكون فى ذلك هلاكها .. ليست المسألة إلى هذا الحد من البساطة فى مواجهة الحدث ..
     ان أى تبسيط للأمر سيجر إلى عواقب وخيمة .. وما دمت قد أخذت على أننى الزوج العائد فلأظل فى الدور إلى النهاية ..!
     ولـكن أى عبث للأقـدار .. مـن الذى كتب الخطـاب .. أهو زوجها حقا ..؟ وإذا كان قد فعل ذلك فلماذا لم يحضر كما وعد ..
     إن تخلفه كان من أجلى .. ليعطينى الصورة ولينفسح لى المجال لأمثل الدور كاملا ..
***
     عدت إلى المقعد ووضعت يدى على رأسى .. كاد رأسى أن ينفلق من فرط احساسى بالموقف الصعب .. ما الذى يفعله الإنسان فى مثل هذه المواقف .. سيترك الأمور تجرى فى أعنتها ..
     واسترخيت .. وغلبنى النعاس وأنا جالس وتنبهت على صرخة مفزعة .. صرخة خرجت منها ..
     وجريت إلى غرفتها .. وصدمنى وأنا أجرى شبح رآنى وأنا أتقدم نحوه وبيدى المسدس فأشهر فى وجهى سلاحا .. فأطلقت عليه النار طلقة واحدة فسقط خارج بابها ..
***   
     وخــيم السـكون مـن جـديد وسمعتهـا تقول بعد دقائق وثوان حسبتها دهرا :
     ـ قتلته .. يا منير ..
     ـ نعم ..
     ـ حرامى ..؟
     ـ نعم .. حرامى ..
      وسألتها :
     ـ أسرق منك شيئا ..؟
     ـ أبدا .. عبث فى الدولاب ..
     ـ أدخل .. من المنور ..؟
     ـ أو من باب المطبخ .. أو أى مكان ..
     وأضافت بهدوء :
     ـ أتبقيه هنا ..؟
     ـ لا .. سأخرجه .. حتى لايزعجك ..
     وسحبته على البلاط .. إلى خارج شقتها .. ووضعته فى المصعد ..
     وسمعت صوتها .. تنادينى وأنا أغلق بابها الخارجى ولكنى لم أرد .. لأنى سمعت حركة أقدامها ورائى ..
     وأنستنى الفرحة بشفائها .. كل ما حدث لى فى هذه الليلة ..







====================================    
نشرت القصة فى صحيفة مايو بعددها الصادر بتاريخ 19 أبريل 1982  وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
====================================






المارد


     مرض " أمين " بالحمى وطال مرضـه ، ولمـا أحـس ببعض العافية ، رأى أن يخرج من البيت ويتريض قليـلا ، لأن الرقـاد الطويل فى الفراش أصابه بالوجع فى عظامه ولحمه ، وأصبح فى حالة من الضعف جعلته لايكاد يتماسك .
     ولما خرج إلى الشارع ولامسته شمس الأصيل ، وحرك رجليه شعر بدبيب القوة يعود إليه ، وأخذ يمشى دون وجهة معينة .
     وكان يسكن فى السبتية .. فوجد نفسه وهو يسير ملاصقا لشريط الترام فى ميدان المحطة ، وإذا بالدخان الكثيف يخيم والحرائق لاتزال مشتعلة فى العمارات والمتاجر .
     وكان قد سمع من الإذاعة قبل أن يخرج من البيت بحريق القاهرة ، ولكنه لم يكن يتصور أن الأمر يصل إلى هذه الدرجة من السوء ، ووصل الدخان إلى خياشيمه ، وكانت أخشاب العمارات تطقطق ، والسماء تلفها سحب الدخان الكثيفة .
     ووجد أن النار كثيرة فى شارع ابراهيم .. ولكنها معدومة فى شارع كلوت بك فاختار الشارع الذى ليس فيه نيران .
     وقبل أن يخطو أول خطوة .. إذا بفصيلة من الجنود تحاصر الميدان وتقبض على كل من كان فيه .
     وأدخلوهم كقطعان الماشية إلى " قسم الأزبكية " .. وكانوا أكثر من ثمانين شخصا ، فيهم الشبان والشيوخ ، ولابسى الجلابيب ، ومرتدى البدل .
     وكانت غرفة الحجز لاتسعهم جميعا ، فقسموهم إلى نصفين .. وضعوا الأول فى غرفة الحجز والثانى فى غرفة مجاورة كما اتفق ، وعلى البابين الحراس بالسلاح .
     ومع كثرة الجنود داخل القسم وخارجه .. ولكن الفوضى كانت ضاربة أطنابها .. وكل الظواهر تدل على أن الزمام قد فلت .. فقد بوغت البوليس بالحريق ، ونهب المتاجر ، فى كل مكان فى القاهرة الواسعة .. ووجد المشردون والرقاع والسوقة الفرصة مواتية .. ولن تفلت من أيديهم .. فتركزوا فى القلب حيث المتاجر الكبيرة الغنية بما فيها .
    
     ولما تحرك البوليس  بعد أن أفاق من وقع الصدمة ، كان هؤلاء قد هربوا واختفوا بأسلابهم .. ووجد البوليس أكثر ما وجد فى الشارع الذين لا علاقة لهم بالسلب والنهب .. ووجد الذين يتفرجون على النـيران ، والعائدين بعـد العمـل إلى بيوتهم .. ولأنه يريد أن يثبت وجوده ، فحاجز الجميع .. واختلط الحابل بالنابل .
     ومع أنهم وزعوهم إلى غرفتين .. ولكن أكثرهم أحس بالاختناق .. فالحجرة لاتتسع لأكثر من عشرة أشخاص فكيف تتحمل وجود أربعين .
     ومع الفوضى والاضطراب .. فقد أخذت التليفونات تدق باستمرار .. وكان المأمور قد أخذ يستشير رئيسه .. فى استحالة بقاء هؤلاء فى القسم إلى الصباح .
     وبعد أخذ ورد تلقى الاشارة بنقلهم إلى سجن مصر .
     ولم يكن المحبوسون داخل القسم يعرفون شيئا مما يجرى فى الخارج .. ولكنهم كانوا يشمون آثار الحريق .. والاضطراب فى الداخل والخارج .. وسرى الخوف إلى نفوسهم .. فعندما تشيع الفوضى .. يصبح من السهل عمل كل شىء .. الجلد والقتل .. ومواراة الجثث فى الصحراء .. واسدال الستار على المأساة كلها ، وما حدث شىء وما من جريمة وقعت .
     ورغم الشتاء أحسوا بالاختناق والعرق المتصبب .. وشل الخوف والرعب كل حركاتهم .. ومنهم من تبول على نفسه وهو واقف وقاعد ..
     وكان من بينهم من دخل سجون الأقسام قبل ذلك .. فأخذ الأمر كله بعدم مبالاة واستهتار .. ولكنه أفاق لنفسه عندما سمع ممن حوله أن الأمر هذه المرة يختلف .. وأن الجريمة الجديدة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤبدة .
     وكان " أمين " أكثر الموجودين رعبا وفزعا .. وشعر بالمرض يعود إليه بكل لمساته القاسية ..! وقعد على الأرض فى مكان وقوفه . وكان من بين المحبوسين من هو أسن منه وأصغر ، فنظروا إليه فى اشفاق ، وقدم له واحد من الكبار سيجارة فأشعلها وهو يحس بتأثيرها على أعصابه .
     وصرخ واحد :
     ـ أخذونى وأنا مروح ..
     ـ كلنا كده ..
     ـ ولمن نتظلم ؟..
     ـ ومن يستمع لمظلمة فى هذا الجو المضطرب ؟
     وسمعوا صوت ضابط ..
     فصاح أحدهم ..
     ـ أنا أعرفه .. انه مقبل بيه .. تربى مع الكونستبلات الإنجليز .. وأصبح كواحد منهم .
     ـ أبدا .. لاتفكر هكذا .. الجمهور تحرك وثار اليوم ليرد على ما حدث لهم فى الإسماعيلية بالأمس .. ضرب الإنجليز الأنذال .. الجنود البواسل .. بعد أن فرغ سلاحهم .. وطوقوهم بالدبابات .. أنذال .. والجنود الذين تراهم وتسمعهم فى القسم مصريون .. كلهم مصريون ينفذون الأوامر ..
     وخيم السكون والصمت .
     وشعروا بالظلام عندما أضيئت المصابيح الكابية فى القسم ، وشعروا معه بالرهبة .
     وظلت الحركة فى داخل القسم وخارجه مستمرة .. وكان وقع أقدام الجنود له صدى رهيبا فى نفوسهم .. كأنه وقع السياط ، ولم يعرفوا لذلك سببا .
     كانوا محبوسين كالجرزان دون عقوبة ودون سبب .. وعندما أخرجوهم إلى الصالة .. تجمعوا كقطيع الغنم .. فى مكان واحد ضيق .. كأنهم يتوقعون شرا سينزل بهم فجأة .. وكل واحد يطلب العون من الذى بجانبه .. ولهذا التصق به واشتد التصاقه .
     وشاهدوا من باب القسم لوريا ضخما .. يقف على بعد خطوات من القسم .. ثم يتحرك حتى يصبح ملاصقا لبابه .. وكان حوله الجنود فى ملابسهم السوداء ذات الأزرار النحاسية التى طمسها الدخان .. ولم تكن الاضاءة قوية لا فى الخارج ولا فى الداخل .
     وبرز من حجرة جانبية بعض الضباط وبعض المخبرين .. يلبسون البلاطى على الجلابيب ويغطون رؤوسهم بالطواقى والملاحف .
     ثم ظهر أطول هؤلاء جميعا وأضخمهم ، وكان يرتدى معطفا داكنا على جلباب أخضر ، وبيده عصا قصيرة ، وكان وجهه نحاسيا ، وعيناه تبرقان وتستعرضان الوجوه فى الصالة .
     ولمح المخبر " أمين " من بين الواقفين المرعوبين المحشورين هناك فى زاوية من الصالة ، لمحه ثم شدد نظره إليه ليجد التجاوب من الوجه الآخر .. ولكن " أمين " كان متخاذلا وضائعا فى هواجسه فلم يعرفه ولم يرد على نظرته ..
     عرف المارد أن أمين جاره فى الحى .. وهو موظف فى الحكومة ، فما شأنه بهؤلاء وكيف وقع بينهم ..؟
     ومرت سحابة من الغم فى رأس الرجل الذى كان يؤدى عمله كل يوم برتابة وعدم شعور .. يدفع الأنفار إلى اللورى وينزلهم .. وكأنهم دمى .. ويسوقهم إلى القسم فى طوابير .. وكأنهم قطعان من الضأن .. مرت فى رأسه سحابة لأول مرة .. لأول مرة يواجه موقفا صعبا .. أن أمين جاره فى الحى فكيف يتركه لهذا المصير المظلم ؟ كيف يرديه بيديه .. كيف يسوقه إلى مصير مظلم .. إلى الأشغال الشاقة مع الرعاع من الصبية والنشالين والنهابين للحوانيت ومشعلى النار فى المتاجر ..؟
     كان رأس المارد يشتغل ويفكر .. ورأى أن يظل فى مكانه على الباب .. وكانوا قد قسموا المحبوسين فى الداخل إلى قسمين ، واصطف القسم الأول فى طابور .. وكان " أمين " فى القسم الثانى وابتهج المارد لذلك.
     وبدأ القسم الأول يتحرك فى بطء إلى اللورى .. وكان المارد هو الذى يعد الأنفار ويصيح :
     ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..
     والعسكرى الذى فى داخل اللورى يتلقى العدد بالتمام .. ويصيح أيضا :
     ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..
     وشحن اللورى الأول وتحرك إلى السجن ..
     وجاء اللورى الثانى .. وكان الجمـهور فى الخـارج قد شعر بهؤلاء المقبوض عليهم فى الداخل .. فأخذ افراده يتجمعون خارج القسم وكثر عددهم .. وخشى الجنود أن يفلت منهم الزمام بعد تكاثر أهالى المحبوسين .. فيخرجون المحبوسين بالقوة .. ويصل الاضطراب إلى مداه .. فحركوا اللورى .. وجعلوه يقف بالطول ، ومؤخرته قريبة من سلم القسم .. وفى الظلام ما أمكن .
     وتحرك طابور المحبوسين ببطء .. وابتدأ العدد .. وكان المارد يسلم النفر إلى زميله فى اللورى .. بصوت عال وبالعدد .. كما فى اللورى الأول .
     وجاء دور الشخص الذى قبل " أمين " .. فأمسكه المارد من عنقه .. وصفعه وصاح فيه بصوت كالرعد :
     ـ انت بتسب الحكومة يا خنزير ..
     ـ أبدا .. أبدا .. يا بيه ..
     وصفعه مرة أخرى .. وحدث اضطراب وزعيق .. وركل المارد " أمين " .. بقوة .. وصاح فيه وهو يدفعه بذراعه ..
     ـ اجرى .. اجرى فى هذه الحارة .. يا متعوس ..
     وجرى " أمين " وجرى .. ولا يدرى وهو قائم من المرض كيف كان يسابق الريح .
====================================  
نشرت القصة فى مجلة الثقافة المصرية بالعدد 80 فى مايو 1980  وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
====================================  



الغزال فى المصيدة
  
       نزلت " سنية " من الترام تحمل صغيرها على صدرها .. وكانت شمس يوليو حامية والحر يلفح الوجوه .. وصعدت فى الشارع الطويل المؤدى إلى المستشفى وهى تحس بالتعب الشديد وبوخز الإبر فى عظامها ولحمها .. فقد أرهقها مرض ابنها ومزق أعصابها .. عالجته بكل الوصفات المعروفة دون نتيجة .. وأخيرا ذهبت به إلى " المستوصف " القريب من بيتها فأخبرها الطبيب بأنه مريض بالحمى ويجب نقله إلى المستشفى فورا ، وإلا ضاع بين يديها .. سمعـت هذا وطار قلبها شعاعا .. وحملته إلى المستشفى وهى تحبس عبراتها ..
     ولأنه وحيـد وقطعة من كبدها وجاءت به بعد موت اثنين من ابنائها .. فقد تجمعت كالقوقعة واحتضنته وحرصت على أن يبقى لها .. ولا يموت كما مات من قبله .. وأن تزود عنه عاديات الأيام .. وكل الاعاصير التى تهب فجأة فى وجه الفقير .. وأن تكافح لتمرضه بكل ذات نفسها وكل ذرة فى جسمها ..
     وكانت الشمس تتوسط كبد السماء ، ولم تجد " سنية " مكانا للظل فى الشارع ، وكان هناك صف من العربات التى تجرها الخيل واقفة فى بداية الشارع ، تنتظر النازلين من الترام ، لتهون عليهم مشقة الطريق إلى المستشفى ، أو إلى أى مكان آخــر فى هـذا الجـــو
الشـديد الحـرارة ، ولكن " سنية " لم تكن ممن يركبن العربات ، فسارت وحدها فى الطريق الصاعد ، ولمحت عن بعد نسوة يتقدمنها فى ملاءات سوداء .. نساء يلبسن نفس زيها .. وفى مثل فقرها وبأيديهن الصرر ، ووراءهن أطفال يتدحرجون فى الشارع الساكن ..
     وعندما مالت فى الطريق الرملى إلى اليسار ،  سألت عن المستشفى بعد أن اختفى أثر النسوة .. فقد خشيت أن تتوه بعد أن تكشفت أمامها رمال الصحراء .. وتعددت البنايات الكبيرة ..
     وعرفت المستشفى من عربات الطعام والفاكهة الواقفة بجانب السور والتى يحط عليها الذباب بكثرة .. ورأت سيارة من سيارات نقل الموتى قريبة من الباب الواسع .. ونساء فى سواد يولولون .. فانقبض قلبها لمنظر السيارة وحال النسوة ..
     وكان الباب مفتوحا على مصراعيه لأنه يوم زيارة عامة .. فدخلت " سنية " مع الداخلين ..
     ودلوها على غرفة الاستقبال .. وكشف الطبيب على الصبى .. وحملوه عنها إلى عنبر فيه غيره من الأطفال المرضى .. وكانوا فى حالة تعيسة .. وجوه شاحبة وعيون تبدو واسعة بعد أن هزل اللحم وبرزت العظام .. وقذارة فى الفراش وفى الأرض .. وأصاب " سنية " الذعر ولكن ماذا تفعل .. أرقدوا ابنها على حشية عليها مــلاءة قذرة تغير لونها  من فرط ما سكب عليها وكان الذباب يتكاثر فى العنبر والجو خانقــا ..
     وبقيت " سنية " جالسة على الأسفلت بجانب ابنها ملتصقة بالسرير ودافنة رأسها فى الملاءة القذرة التى تغطى الحشية .. كان الصبى جامد النظرات ، ساكن الجوارح .. ولكن على وجهه الرضا لأنه يحس بوجود أمه عن قرب ..
     ووقفت ممرضة على رأس " سنية " وقالت لها :
     ـ تعال يا ست ..
     ـ إلى أين ..؟
     ـ ستأخذين حقنة ..
     ومشت وراء الممرضة فى الطرقات الطويلة .. وفى بناية فى حديقة المستشفى حقنها طبيب بحقنة ضد التيفود .. وخرجت من البناية لتعود إلى ابنها .. ورأت بابا مفتوحا فى غرفة قليلة الضوء .. غرفة ساكنة باردة فى هذا الحر .. فدخلت من الباب تنظر .. رأت جسم صبى ملقى فى حوض كأحواض السمك وعليه قطع الثلج .. وتقدمت لتنظر وقد أقشعر بدنها .. وأدركت أن الصبى ميت وهذه هى الثلاجة .. وحاولت أن تصرخ ولكن خانها صوتها .. وخرجت مهرولة إلى عنبر ابنها .. وهناك احتضنته .. ودفنت رأسها فى صدره ..
      واستغرقت " سنية " فى وضعها ونسيت نفسها ثم استفاقت على صوت التمرجى يقول لها بغلظة :
     ـ ميعاد الزيارة انتهى .. اتفضلى .. روحى ..
     وسألته :
     ـ أروح .. واترك الولد ..؟
     ـ نعم .. هذا مستشفى .. وليس بيتا ..
     وأحست بحرقة ، أحست بمن يخنقها ، تتركه لهم ليضعوه فى حوض وعليه الثلج كالذبيحة .. أبدا .. أبدا ولو قطعوها إلى قطعتين .. تتركه هكذا وهو بين الموت والحياة .. أبدا ..
     أخرجوها من العنبر بالقوة .. ومن باب المستشفى .. ولكنها ظلت لاصقة بالسور ..
***
     وعندما خيم الظلام على الصحراء وشمل السكون المنطقة .. اقتربت من الباب ودفعت خمسة قروش للبواب ودخلت متسللة كاللصة .. كانت تعرف مكانه رغم تعدد العنابر وكثرة الطرقات ..
     ودخلت العنبر وهرولت إلى سرير ابنها وهى تدير عينيها فى الضوء الباهت بذعر ورجفة .. لم يكن هناك ممرض ولا ممرضة .. وكانت تسمع بكاء الأطفال فى العنبر فيرتجف قلبها .. واحتضنت ابنها وأحست بالحرارة الشديدة فى جسمه .. وكان الصبى يهذى وجسمه الصغير يرتعش وألصقت قلبها بقلبه .. وخيل اليها أنها لاتسمع ضربات القلب الصغير .. وألصقت خذها بخده وأخذت تبكى .. ابنها يموت ..
     وخرجت من العنبر مهرولة تبحث عن طبيب لينقذ ابنها .. وظهر رجل فى رداء مصفر فى نهاية الطرقة .. فلما رآها أسرع نحوها وأمسك بها وقال بخشونة :
     ـ كيف دخلت المستشفى فى مثل هذه الساعة ..؟
     ـ ابنى يموت ..
     ـ وما الذى جاء بك فى الليل .. وكيف دخلت ..؟
     ـ من الباب .. ابنى يموت ..
     ـ من الباب .. مستحيل .. تعالى .. نسأل البواب .. وليلته سوداء إن كان قد أدخلك ..
     وأمسك بها من يدها بعنف وجرها إلى البواب .. وأنكر هذا أنه رأى حتى ظلها ..
     وقال التمرجى وهو يحد النظر إلى وجهها :
     ـ إذن فقد تسلقت السور لتسرقى .. ولا بد من تسليمك للبوليس ..
     ـ سرقت ..!؟
     ـ أجـل .. والعنبر ملآن بأشياء الحـكومة .. والمخزن مفتوح ..
وكل ليلة تسرق أغطية وبطاطين وآلات طهى .. ولا نعرف السارق .. وأخيرا وقعت ..
     وأخذت تتوسل ..
     ورأى لأول مرة جمالها الباهر وصباها .. وعينيها والثوب الأسـود والمنديل الأزرق يغطى الرأس ويزيد وجهها نضارة وتألقا ..
     وبكت ..
     ـ اعمل معروف .. أنا مسكينة والولد بيموت .. أليس عندك أولاد ..
     ـ عندى ولكنى لا أتسلق السور فى الليل ..
     ـ البواب .. كذاب .. حلفه .. لقد دخلت من الباب ..
     ـ طيب .. تعـالى .. وفى الصباح سنسلمك للمعاون وهو يتصرف ..
     وسحبها إلى غرفة فى حديقة المستشفى ..
     ـ نامى هنا إلى الصباح ..
     وأغلق عليها الباب ..
     ظلـت متيقظة فى الظلام تنظر إلى السقف .. وهى ترتعش من الخـوف .. كانت قـد فوجئت بهـذا الاتهام الذى شل حركتها وإرادتها تماما .. ورقدت خائفة .. وبعد ساعة أحست به يدخل عليها ويرقد بجوارها ..
     وقاومت بكل شبابها وأنشبت أظافرها فى لحمه .. ولكنه لم يتراجع واغتصبها وهو يسيل عرقا من فرط مقاومتها العنيفة ..
     وفى الصباح لم يسلمها للمعاون وتركها تذهب إلى العنبر الذى فيه ولدها ..
     ومضت أيام وهى فى داخل المستشفى بجانب ابنها ..
     وجعلوها تغسـل بلاط العنـبر وطـرقات المستشـفى وتحـمل التراب والنفايات .. جعلوها تفعل كل هذه الأشياء لكى تبقى بجانب ابنها .. ومادام ليس معها نقود .. فقد كانت تدفع عرقها ..
     كان كل همها أن يعيش الصبى .. ومادامت بجانبه ترعاه سيعيش ..
***
     وظلت عشرين يوما فى المستشفى ..
     وكانت تذهب إلى البيت خطفا ثم تعود جريا إلى المستشفى .. ونسيت زوجها الفران .. كان عمله كله فى الليل ، فإذا جاء فى الصباح عرف أنها فى المستشفى ونام .. كان يحب الولد وكان مطمئنا عليه مادامت أمه بجانبه ..
     ظلت تكنس وتمسح البلاط وترضخ لكل ما تطلبه منها الممرضات وهى فى كل يوم خائفة أن يقدمها ذلك الرجل للبوليس كسارقة .. ومن السهل على مثله أن يلفق لها تهمة كبيرة .. كانت تخاف منه وكان هو يخاف منها أن تحدث الناس بفعلته .. تحكى القصة لطبيبة أو لممرضة وهذه تأخذها إلى مدير المستشفى ثم يصل الأمر إلى النيابة فى الحال ، كان يخاف منها أكثر مما تخاف منه .. وفى كل يوم كان يحب أن تبقى فى المستشفى وأن يراها بعينيه لأنها لو خرجت ستتحدث .. ولو تحدثت بما جرى لها سيحرضها الناس على إبلاغ البوليس ..
     كان وجودها تحت سمعه وبصره يطمئنه .. كما أنها كانت تطمئن عنــدمـا تراه فى طـرقات المستشـفى ســاكنا جامــدا .. فتــدرك أنه نسى أمرها ..
     وفى ظل هذا الخوف الرهيب المتبادل قضيا معا عشرين يوما يطوقهما سور المستشفى الكبير وهما فى عداء باطنى خفى قاتل ..
     كان يكرهها وكانت تكرهه ..
     كانت تكرهه لأنه سبب لها كل هذا الرعب .. وكان يكرهها لأنها قد تكون السبب فى فصله من عمله وتشريده فى الطرقات ..
***
     فى الظهر .. مـر الطبيب وكشف على الطفل .. وسمح له بالخروج ..
     وخرجت به " سنية " من باب المستشفى فى مثل الساعة التى دخلت فيها منذ ثلاثة أسابيع .. وكانت الشمس حامية والحرارة أشد ضراوة .. ومشت فى نفس الطريق الذى جاءت منه من قبل ..
     كانت فى هـذه المـرة تنزل ولم تكن تصعد ، وكان المشى أكثر سهولة .. ولكنها كانت تشعر بالانقباض .. كان الصبى قد شفى تماما واسترد كامل صحته .. ولكن عافيته لم تشعرها قط بالفرحة .. كان هذا الصبى هو السبب فيما حل بها من بلاء ، لو كان معها نقود لمرضته فى البيت ونجت من هذا الوغد .. مرضته فى البيت بعيدا عن العيون .. ودون أن تخبر أحدا بنوع مرضه .. ولكنه مرض بحمى معدية .. ولا بد أن يشيع الخبر ويتسرب من أى شخص .. وكتمانه من المستحيل .. وسينقلونه إلى المستشفى رغم أنفها ..
     إن ما حدث كان مقدرا لها والمحنة التى مرت بها لن تغفر لها خطيئتها قط .. كان يجب أن تستقتل ولو مزقها إربا وقطع أنفاسها ..
     وقبل أن تخرج من الشارع الرئيسى مرت بجانبها سيارة صغيرة وأطل رأس رجل فى قميص مفتوح وأوقف السيارة وقال برقة :
     ـ تعالى أوصلك .. يا سنية ..
     وجفلت .. كيف عرف اسمها .. ثم تذكرت هذا الوجه .. أنها رأته فى المستشفى .. وكان دائما بشوشا طلق المحيا كما هو الآن .. فى أى عنبر رأته وفى أى مكان ..؟ لم تكن تدرى ..
     وردت " سنية " بضعف :
     ـ كتر خيرك .. قربنا من الترام ..
     ـ اركبى من أجل الصغير .. الشمس حامية ..
     ونظر إليها مرة أخرى نظرة كلها حنان ..
     فقالت لنفسها :
     ـ وماذا يضير .. وما الذى بقى لى بعد الذى جرى ..؟
     وركبت فى المقعد الخلفى صامتة والغلام فى حجرها ..
     وقال الطبيب وهو يسير بالسيارة متمهلا :
     ـ ابنك .. استرد عافيته ..
     فهمست :
     ـ ليته .. مات ..
     ولم يسمعها ..
     وقال وهو ينظر إلى الطريق دون أن يدير رأسه إلى الخلف :
     ـ لقد حقنتك حقنة التيفود .. بعد أن وضعنا الصبى فى العنبر .. وكنت لا تريدين أن تشمرى عن ذراعك .. أتذكرين ما حدث ..؟
     وضحك .. وابتسمت ..
     ـ أنا جاهلة .. يا بيه .. وهذه أول حقنة فى حياتى وكيف أشمر عن ذراعى أمام رجل ..؟
     وتذكرت كل شىء لقد حقنها حقا .. وكان رقيقا مهذبا وإنسانا ولكنها كانت فى دوامة ، ومر هذا سريعا .. مرت هذه اللمحة الإنسانية سريعا وبقى الأثر المدمر .. الذى محا كل عاطفة أخرى تأتى من إنسان ..
     لقد جرجروها ومزقوها بغلظتهم لأنها فقيرة .. واستغل الرجل النذل جمالها ليلطخه بالوحل .. النذل أرهبها ليوقعها فى الشرك .. نصب لها المصيدة الجبان .. النذل ..
     وسمعت الطبيب الشاب يسألها :
     ـ ساكنة فى أى جهة ..؟
     وخجلت أن تقول فى الدراسة قريبا من المقابر ..
     وقالت :
     ـ قريبا من الحسين ..
     ونظر إلى عينيها وكان يود أن يقول لها :
     ـ أنت جميلة يا " سنية " ولم أر مثل جمالك قط فى أنثى .. وأنا سعيد بركوبك معى .. سعيد سعادة ليس لها من حدود ..
     وقالت بعد أن اقتربت العربة من شريط الترام :
     ـ سأنزل ..
     ـ لا .. سأوصلك إلى بيتك ..
     وصمتت وكانت الدموع فى عينيها وهى تحدق فيه ..
     وهمست :
     ـ أخيرا .. يجىء إنسان ..
     وسألته وهى نازلة .. تضع طرف طرحتها على جسم الصبى ..
     ـ ألا تريد شيئا .. يا دكتور ..؟
     ـ أبدا .. شكرا ..
     ـ أنظف لك البيت .. وأغسل ملابسك ..
     ـ شكرا .. تسلم يدك ..
     وظلت واقفة فى مكانها شاردة حتى بعد أن تحركت العربة واختفت عن نظرها ..






=================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة فى العدد 46 ـ يوليو 1977وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
===========================================

الياسمين

       كان أخر قطار فى الليل يتجه إلى الإسكندرية .. ومع أنه يسمى بالإكسبريس فى الجدول ولكن معظم عرباته متهالكة ..
       وكانت عربات الدرجة الثالثة على الأخص فى حالة من السوء والقذارة لا تطاق ، وقد اعتاد المسافرون على مثل هذه المناظر وألفوها وكفوا عن الشكوى منها ..
       وهو يزدحم عادة بالمسافرين حتى محطة طنطا وركابه من مختلف المهن وعلى الأخص أصحاب الأعمال الذين قضوا نهارا واحدا فى القاهرة وحرصوا على أن يناموا فى بيوتهم ..
       ويبدو الزحام على أشده فى الدرجة الثالثة فالممرات ممتلئة بالواقفين والعابرين وبالحقائب والصرر والسبات الصغيرة والكبيرة ..
       ويخف الزحام نوعا فى الدرجة الثانية أما الدرجة الأولى فلم تكن مقاصيرها مشغولة كلها لأن ركابها يفضلون قطارات الديزل المكيفة الهواء على مثل هذا القطار وكان بها ثلاثة ركاب فقط .. يشغل واحد منهم مقصورة خالية فى نهاية العربة وكان من تجار الجواهر فى الإسكندرية وجاء إلى القاهرة فى الصباح ليحضر بيع جواهر بالمزاد من بعض القصور المصادرة ولما كان يحصل ما اشتراه فى حقيبته الصغيرة .. فقد حرص على الحقيبة وحرص على أن يعود إلى الإسكندرية فى نفس اليوم .. وظل متيقظا فى القطار ومتنبها لكل حركة طول الوقت ..
       ورغم برودة الشتاء فقد أخذ بعض الباعة يتحركون فى طول القطار .. رغم المطر .. يبيعون المأكولات والحلوى واليوسفى .. وكل ما يحتاجه المسافرون من الأشياء الصغيرة ..
***
       وبعد محطة بنها خفت حركتهم وقلت وبدأ النوم يداعب أجفان المسافرين وسمع صياح طفل فى نهاية العربة .. وأم تحاول إسكاته .. وهو يزداد صراخا .. وبدا أنها حديثة عهد بالأطفال وكثر دخان المسافرين فى جو العربات المغلقة النوافذ ..
       ومر القطار بالمحطات الصغيرة المألوفة وهو يجلجل على القضبان ..
       وكانت الليلة ضريرة النجم فبرز القطار من جوف الظلمة يشق الأفق بمثل الشهاب المنطلق .. وكانت النوافذ .. تبرز من وراء الزجاج .. العتمة الشاحبة .. والقرى النائمة فى ظل النخيل .. وأشجار السرو .. والكافور .. والجميز الضخمة .. وأسلاك البرق .. وهى تهتز وتصفر كلما أسرع القطار وهبت الريح ..
       وكانت الساعة تقترب من العاشرة ليلا عندما تحرك شخص متوسط الطول فى الممر يرتدى معطفا قديما سميك النسج وكان بيده حقيبة صغيرة ملآنة بزجاجات العطر .. المختلفة .. زجاجات النرجس والياسمين والفل .. والقرنفل وكان قد صنفها .. ووضع كل صنف فى زجاجة لها شكلها الخاص بها ..
       وكان وهو يتحرك فى الممر بين الركاب يتبع طريقة واحدة .. طريقة فريدة للغاية .. فهو يرج الزجاجة الصغيرة بإصبعه .. ثم يضع العطر على قبضة المسافر .. حتى ولو لم يكن راغبا فى ذلك ..
       ويمر هذا العرض العطرى .. على الركاب جميعا فى حركة سريعة أخاذة .. لا تدع مجالا لمعترض .. وبعد أن ينتهى دور العرض فى الذهاب .. يأتى دور البيع فى الإياب ..
       فيأخذ فى بيع الزجاجات وقبض الثمن وهو يتفرس فى وجوه الركاب بعينين براقتين يطل منهما ذكاء نادر المثال ..
       وكثيرون هم الذين يشترون منه لأنه حلو اللسان .. ولا يبالغ فى الثمن .. ولعل سعره الموحد هو من أهم عناصر نجاحه ..
***
       وتضم قطارات الليل عادة خليطا من هؤلاء .. وعلى الرغم من كثرة الباعة على رصيف محطة طنطا الذين يبيعون الحمص والحلوى من كل الأصناف ..
       فإن فى داخل القطار نفسه يوجد أكثر من بائع يذرع العربات من أولها إلى أخرها فى إصرار عجيب ..
       وبعد كل محطة ينزل من القطار بائع ويركب بائع جديد ..
       وأخذ شاب يوزع أقراص النعناع على مقاعد الجالسين وأفخاذهم .. ولا يترك راكبا واحدا دون أن يترك له قرصا .. ليتذوقه ..
       وجاء بائع آخر ، وكان يرتدى بنطلونا وقميصا مفتوحا فى صميم الشتاء وأخذ يوزع على المسافرين إعلانا صغيرا كتب فى لغة رديئة جدا .. عن كتاب يحمل نسخا منه وكان ملفوفا فى ورق السلوفان ويبدو على غلافه صورة مثيرة لامرأة شبه عارية .. والإعلان يعرض صورة فى غاية الإثارة عن دقائق الحياة الجنسية ..
       واشترى كثير من الركاب الكتاب ، ولما فضوا غلافه على عجل وبأصابع ترتعش من فرط الانفعال .. وجدوه صفحة واحدة مكررة من كتاب فى علم الفلك وطوالع النجوم ..
***
       وسبح فى جوف العربات كلها دخان كئيب وخيم الصمت وأخذ النوم يداعب الأجفان ، وبدأ القطار فى سكونه بعد الضجة الشديدة التى كانت فى محطة القاهرة ومحطة طنطا كأنه قد خلى من الركاب جميعا ..
       وفى إحدى المحطات الصغيرة نزل من العربة الخلفية راكب واحد محاولا ألا يشعر به أحد .. وكان هو الراكب الوحيد الذى نزل فى هذه المحطة ومشى على مهل .. يبحث عن سيارة أجرة ثم طواه الليل ..
***
       وفى محطة إسكندرية ..    توقف القطار ونزل منه من بقى من الركاب .. ووجد الفراش راكبا فى مقصورة وحده فى الدرجة الأولى مريحا رأسه على صدره .. فحسبه نائما وأخذ الفراش يوقظ تاجر المجوهرات بلطف .. فلما لم يستجب له .. ظنه مات .. وصرخ يستنجد بعمال المحطة ، ولما تجمعوا حول المسافر وجدوه فى غيبوبة تامة من تأثير مخدر قوى ، وكانت حقيبة التاجر الصغيرة قد سرقت بكل ما فيها من جواهر..
***
       وكان هناك من بين الجموع راكب واحد كان واقفا هناك فى عزلة .. وأخذ يتذكر بائع العطور الذى كان يوزع الزجاجات على الركاب والذى غير ملابسه وحلق ذقنه .. وهو يهبط متسللا من القطار ..





==========================
نشرت القصة فى صحيفة التعاون بالعدد 1386 بتاريخ 19/6/1966 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================















الأب

       كان أحمد توفيق موظفا صغيرا فى إحدى المصالح ويعيش بقوت يومه .. وكان قد ترمل منذ خمسة عشر عاما وخلفت له زوجته ولدا مريضا مصابا بشلل الأطفال فظل يمرضه ويرعاه وهو فى أشد حالات الضنك حتى باع أثاث بيته واضطربت حياته كلية وأصبح فى ذعر دائم من مجرد ذكر الأدوية ومصاريف العلاج ..
       وإشفاقا على ابنه المريض لم يتزوج الرجل لأنه كان يعتقد أن زوجة الأب تزيد من تعاسة الطفل ..
       وظل فى صراع مع الحياة حتى شفى ابنه من مرضه .. وأدخله المدرسة الإبتدائية ثم المدرسة الثانوية .. فلما جاء دور الجامعة .. كان الأب قد أحيل إلى المعاش وتناقص مرتبه إلى النصف .. وأحس الأب بالعذاب والفراغ .. وفكر فى أن يلحق ولده بأى عمل يكسب منه ليخفف عن نفسه الحمل الثقيل الذى أنقض ظهره ولكنه بطبعه المضحى نحى هذه الفكرة عن رأسه بعد أن أدرك الضرر الذى سيصيب ابنه إذا حرمه من التعليم العالى .. وأراد أن يتحمل هو المشقة وحده وألحق الابن بالجامعة ..
     وسعى هو سعيه إلى أن وجد ما يعوض النقص فى مرتبه فاشتغل فى شركة من شركات التأمين بالقاهرة وأخذ يوزع " البوالص " على العملاء نظير عمولة محددة .. وبدأ فى محيط عمله السابق فى وسط الموظفين وبعد تردده على المكاتب لمس أن معظم العملاء من زملائه السابقين يشتركون فى التأمين على حياتهم شفقة به أو خجلا منه دون أن تكون عندهم الرغبة الحقة أو الإيمان بصك التأمين كشيء نافع لهم أو لذويهم فتألم أحمد وخجل من نفسه ، وحكى حاله للذين يقومون بمثل عمله فى الشركة ، فأشاروا عليه أن لا يعبأ بالأمر وأن يشق طريقه فى كل دروب الحياة الأخرى والذى يرفض .. اليوم سيقبل غدا.. فتحول إلى التجار .. والأطباء والمحامين .. وأخذ يقرع أبواب المكاتب والبيوت فى إصرار .. وزادت خبرته بالناس والحياة وزاد علمه بطباع البشر .. ووجد أن الوظيفة الحكومية قد أبعدته عن محيط الحياة الواسع وجعلته محصورا فى قوقعة .. فلما خرج إلى الحياة ألقى نفسه متخلفا قليل الخبرة وزادته التجارب صمودا فى وجه الحياة ولم يعد يوجعه أن يقول له عميل لا .. بل أصبح ذلك يزيد من إصراره على معاودة القرع والوقوف أمام الباب .. وخلال فترة عمله وتنقلاته من المكاتب إلى البيوت كان يرى الكثير من النساء الشابات والعوانس ويرى فيهن من تصلح له زوجة ، ومنهن من كانت تغريه بالزواج منها وتطلب منه ذلك صراحة ولكنه ظل على موقفه رافضا الزواج لأنه كان يحب ولده أكثر من أى شيء آخر فى الحياة فتفرغ له ليرعاه ..
    وكان يرى أمامه الثمرة تنمو وتزدهر فيزداد سروره .. وكلما مرت الأيام ورأى ابنه يكبر بين يديه ازداد تعلقه به وتفانيه فى سبيله ..
    كان يرى الثمرة التى تعهدها على وشك النضج ويشعر بالفرحة .. كان حصول الفتى على درجة جامعية هو مبتغى الأب ونهاية المطاف بالنسبة لكفاحه ..
***
       وظل يجمع له المال ويلف ويدور على العملاء ليجعله يلبس أجمل الملابس .. ويأكل أجود طعام ولا يحس بأن شيئا ينقصه أبدا ..
       ولما أنهى الشاب دراسته فى كلية الحقوق فرح الأب .. وكان يتصور أن متاعبه قد انتهت .. ولكنه أحس بعد شهور قليلة بأن متاعبه بدأت فعلا فقد كان الشاب فى أثناء دراسته مشغولا بشيء يبغى الوصول إليه .. أما بعد أن انتهى من الدراسة فقد بدأ يشعر بالفراغ والقلق وكان الأب وهو يوزع بوالص التأمين على عملائه يسألهم عن وظيفة لولده حسن ولكنه لم يوفق ..
       ولم يشتغل الابن كما كان يقدر الأب ، وظل الأب يكافح وحده فى الميدان ، وكان يصعد مئات السلالم إلى الأدوار العليا .. ليوزع بوليصة .. ويأتى لولده بثمن حلة جديدة .. وكان هو يلبس ملابسه القديمة .. ويرفو ما تمزق منها ويصبغ ما حال لونه .. ولم يكن هذا يضيره فى شيء كان كل تفكيره تركز فى ولده .. وقد تبلور وأفنى نفسه فيه ..
       وكان كلما ذهب ليزور عميلا جديدا .. يقرن توزيع البوليصة أو سداد القسط الشهرى .. بالسؤال عن عمل لابنه ..
       وكان التامين بالنسبة له عملا روتينيا ثم أصبح عملا ممتعا .. وأخذ يقنع العملاء بفائدته .. ويصور لهم الخير الذى سيعود عليهم وعلى ورثتهم إذا أمنوا على حياتهم من غوائل الحياة وعاديات القدر .. امتزج التأمين بلحمه ودمه .. وأخذ كلما قابل شخصا عرضا فى مجلس يسأله :
-      هل أمنت على حياتك ..؟
-      أبدا ..
-      إذن أمن .. وابدأ بجنيهين واختر أقل الأقساط .. المسألة بسيطة ..
وكان يسهل العمل للعملاء ويشرح لهم مزايا التأمين وفوائده والنفع الذى سيعود عليهم منه ، وكان يخرج من الصباح المبكر ويلف ويدور على المكاتب والبيوت
ومع كل هذا التعب وهذه المشقة فإن مجموع ما كان يحصل عليه فى الشهر لا يتجاوز خمسة عشر جنيها كعمولة عن عمله ..
وكان راضيا به قانعا وبالإضافة إلى عشرة جنيهات المعاش كان يجد ما يكفيه هو وابنه من غير إسراف ..
***
وكانت عنده خادم عجوز تعمل فى البيت تطهو الطعام وتغسل الملابس .. وكانت كلما وجدته وحيدا وكئيبا تقول له :
-       لقد وجدت لك عروسة حلوة يا سي أحمد ..
-       يا ستى ريحى نفسك .. مين قال لك أنى أود عروسة ..
-       والنبى الست بدرية زى القمر ..
- يا سلام .. أنا بشوف بدرية .. وأحسن من بدرية مائة مرة .. وأنا مش عاوزك تبحثى لى عن عروسة .. ريحى نفسك ..
-       دى حلوة .. زى القمر ..
وكان يضحك ..
***
       وكان تفكيره كله محصورا فى مستقبل ابنه والبحث عن عمل له ..
       وبعد سعى دءوب وجد له عملا .. واشتغل الابن فعلا وسر الوالد .. طار قلبه من الفرحة ..
       ومرت الأيام .. وأحس الأب بأن يتوج سعادته بزواج ابنه .. وتزوج الشاب من فتاة عرفها وأحبها ..
       وظل الأب يعيش مع العروسين تحت سقف واحد ..
       ومرت الأيام والليالى ..
       وذات ليلة سمع عراكا بين الزوجين وأدرك أنه هو السبب فيه .. ثم أحس أنه غير مرغوب فيه من الزوجة أولا .. ثم من ابنه كذلك ..
       وتألم وضاقت به الحياة فقد استغنت شركة التأمين عن خدماته لأنه أصبح عجوزا ولا نفع فيه ولا خير يرجى منه ..
       وأصبح وجوده فى البيت سبب نزاع دائم أو نكد بين الزوجين ..
       وكان ابنه يقول له بعينيه اخرج من بيننا اتركنا لحالنا .. ويعجز خجلا عن قول ذلك بلسانه وتألم الأب .. وقر قراره على أن يرحل ..
***
       وفى جنح الظلام دفع الباب متسللا فى هدوء وخرج إلى الطريق دون أن يشعر به أحد وقابله البرد وريح الليل وكانت دمعة صغيرة قد تحيرت فى مآقيه .. ولكنها ذابت عندما تذكر صديقا .. كريما سيركب إليه القطار ويقضى عنده ما بقى من أيامه فى الريف ..
===========================
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 3039 بتاريخ 4/3/1965 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة سنة 2002
==========================


فى المزاد

       " 63 – 65 – 68 – 75 – 90 – 105 – 150"
       حنبيع ... حنبيع ... حنبيع اتفضل على الخزانة ..
       ونصب الدلال قامته ومد ذراعه ونشر ثوبا من النسيج الرفيع .. ونقر بعصاه على المنضدة وعاد إلى الكلام .. وكان وجهه الأحمر يتحرك كله من شعر رأسه إلى أسفل ذقنه وتنبض كل جارحة فيه مع حركة يديه وعينيه ..
       كان قد نشر الثوب إلى أقص القاعة التى تزاحم فيها الواقفون .. وتناولت الثوب الأيدى بالفحص والأعين بالنظر ..
       ونقر الدلال بعصاه على المنصة وأخذ صوته القوى يدوى :
       " 5 متر حرير طبيعى .. تنفع .. بيجامة .. جلابية .. قمصان – 50 – 55- 60 – 70 – 75 – 90 – 100 – 115 – 120 – 130 – حنبيع .. حنبيع .. اتفضل على الخزانة ..
       وأمسك بشيء أبيض صغير وهزه فى يده ..
       دستة مناديل تيل .. شيك خالص .. الدستة بثمن منديل واحد – 15- 20 – 25- 33- 38 – 42- 50 – 65 – 70
    حنبيع .. حنبيع .. اتفضل على الخزانة ..
       وكان سرى أفندى قد خرج هو وزوجته فى صباح يوم الجمعة ليذهبا إلى السينما فى حفلة الصباح وسارا فى شارع سليمان باشا .. وسمعا صوت الدلال من بعيد وهو يهز الحى كله .. وبصرا بمساعده على الباب يقرع الجرس ويصيح ..
       ووقفا على باب المتجر وطالعهم وجه الدلال الأحمر ، ومن خلفه البضائع مكدسة على الرفوف فى غير نظام .. وكانت بعض الرفوف خالية ، دلالة على أن المحل " يصفى " ورأى سرى أفندى رجلا يجلس على مكتب صغير بجوار الدلال ويدون فى دفتر أمامه .. ولا شك أنه كان يكتب أسماء الذين رسى عليهم المزاد .. ولاحظ أن حول الدلال أكثر من خمسة أشخاص لم يتحركوا من مكانهم ولم يبرحوا القاعة وكانوا هم الذين يحركون المزاد وكان أحدهم يرتدى الملابس البلدية وآخر يلبس معطفا على جلباب أسمر ..
       والثلاثة الباقون أحدهم مطربشا .. وكانت عيونهم على الأثواب المنشورة وألسنتهم لا تكف عن الكلام .. وتتحرك دائما مع الدلال ..
       وكان الدلال ربعة فى الرجال بادنا أحمر الوجه مدورا .. عريض العنق واسع الفم ، وكان يرعد بالصوت ونظره إلى الأمام ويخيل إلى الناظر إليه أنه غافل عنه لا يلتفت إليه .. ولكن عينيه فى الحقيقة كانت لا تغفلان عن شيء فى القاعة كلها .. كان يتفرس فى الوجوه .. ثم يقع على الطريدة ويلوح لها بعصاه القصيرة .. ويتبع العصا بنظره ثاقبة ، ثم حركة من الفم تخرج معها الحروف وتدور وتستقر فى أذن الطريد 43 فيتحرك فم هذا دون وعى منه ويقول 45 ثم 50 – ثم 60 – ثم يجد نفسه يدور فى حمى المزاد من حيث لا يدرى وبعد دقيقين اثنتين يجد نفسه واقفا أمام الصراف ..
       وكان سرى أفندى قد وقف مع زوجته فى نهاية الصف .. للفرجة فقط ولم يكن مقصدها شراء أى شيء .. لأنهما لم يكونا فى حاجة إلى شيء .. ولمحهما فتجاهلهما عامدا أكثر من عشر دقائق .. وكان مظهرهما يدل على الثراء والوجاهة .. فأخذ يعرض أشياء تافهة كمناديل وحمالات وجوارب و" فانلات " ويبيعها بسرعة بثمن مغر .. بأقل من تكاليفها .. حتى تأكد سرى أفندى أنه أمام فرصة لا تعوض ..
     ورماه الدلال بنظرة سريعة وعرض ثوبا من الحرير المشجر وهز عصاه وأطلق صوته :
       فستان حرير .. مشجر – 60 – 62 – 73 – 86 – 99 – 110 – 130  170 – 200 – 217 
     حنبيع .. حنبيع .. حنبيع .. اتفضل على الخزنة وكان المتفضل هو سرى أفندى ..
       وبعد خمس دقائق كان قد تفضل مرة أخرى ووقف أمام الصراف ثم وجد نفسه ينساق مع التيار الجارف ويروح فى غمرة المشترين .. وكان صوته أعلى صوت فى المزاد وكان يغتاظ أشد الغيظ عندما يجد رجلا فى ثياب رثة لا يدل مظهره على الجاه والثراء يتزايد عليه .. وكان يرفع السعر بالعشرات والمئات وسر الدلال لهذا واطلق حنجرته وأرعد ..
       وكان الناس قد سدوا منافذ المحل وأقبلوا نهمين على المزاد ولم يكن هناك شيء يعرض يستحق الذكر أو يغرى على الشراء ولكن كان هناك وجه وصوت .. وعينان مغناطيسيتان لا يفلت من تأثيرهما إنسان ، تلك هى عينا الدلال وصوته وشخصيته الجبارة الطاغية .. وكان قد مضى عليه أكثر من أربع ساعات وهو يزأر ويصيح فما بح صوته ولا كل ، وكان العرق ينفض من عروق جبهته وطربوشه يتدلى على جبينه وقميصه المفتوح يبرز عضلات صدره .. ويده القوية تلوح فى الفضاء .. وتقرع المنصة فى حركات روتيبة ..
       ووجد سرى أفندى نفسه بعد ساعة من الزمان قد ابتاع أشياء كثيرة لم يكن فى حاجة إليها إطلاقا ، ولكنه وقع تحت سلطان هذا الدلال وسحره فقد اشترى منامة وثوبين من الحرير لزوجته .. وجوارب .. ومناديل .. ومناشف للوجه .. وبشاكير .. وتماثيل صغيرة ... لغرفة الصالون .. وساعة مكتب .. وزهرية ..
       ولم يكن يفكر وهو يشترى كل هذه الأشياء فى طريقة حملها إلى البيت معه وليس معه سيارة .. فاضطر أن يركب سيارة أجرة .. وجلس ومعه زوجته بعد أن فرغت جيوبه .. ولكنه مع هذا شعر بالارتياح لأنه اشترى أشياء جميلة .. وثمينة ..
       وبعد الغداء .. نام سرى أفندى ليستريح من الجهد الذى بذله وجلست زوجته تلاعب الأطفال .. وتستقبل بعض السيدات من جيرانها وكعادة النساء عرضت عليهن كل ما ابتاعته من المزاد وابتدأت بالزهرية وكانت قد وضعتها فى غرفة الصالون ..
       وسألتها إحدى السيدات :
ـ بكم هذه .. يا سميحة هانم ..؟
ـ بـ 940 قرش .. كريستال أصلى ..
ـ هذه ..؟
وضحكت علية هانم حتى كادت أن تقع من فوق كرسيها من فرط الضحك ..
ـ مالك .. لماذا تضحكين هكذا ..؟
ـ كريستال .. هذه ..؟
ـ نعم ..
ـ إنها زجاج فالصو .. تعالى أريك .. أختها جاء بها فؤاد من الممر التجارى أمس بأربعين قرشا ..
وجاءت علية بالزهرية التى ثمها 40 قرشا ونظرت إليها سميحة .. وقارنت بين الاثنتين فلم تجد أى اختلاف .. نفس الصنف ونفس الحجم .. ونفس اللون ..
وصعقت وكادت تبكى ..؟
ولما صحا الزوج حدثته بالخبر فنظر إلى الزهرية وظل يتميز من الغيظ ، ولما حل ميعاد العشاء لم يتعش .. وأقسم ألا يدخل قاعة مزاد مرة أخرى طول حياته ..




=========================
نشرت القصة فى صحيفة القوات المسلحة بالعدد 389 بتاريخ 16/5/1963 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
=========================





الليل والنهار


     فى حى جنزا حينما دقت الساعة السادسة صباحا دخل إبراهيم شارع الملاهى وكانت أبواب المراقص كلها مغلقة ، وبدأ الحى الساهر طوال الليل ينام ..
     كانت البنايات صامته والنوافذ أسدلت عليها الأستار الحريرية وظلت البالونات فى مكانها تسبح فى الجو ومداخن المطابخ الشهباء تلفظ آخر ما فى جوفها وتصافح أبراجها العالية أشعة الشمس .. فيدوب ما علق بها من ندى الصباح ..
     وكان الكناسون قد بدأوا فى العمل منذ أطفئت المصابيح فى الحى ، وجرفوا قاذوراته إلى الجوانب الخلفية ..
     فبدا الحى الذى كان يتألق فى الليل كأجمل الأحياء فى الدنيا جمعاء صامتا وموحشا وكئيبا فى النهار ..
     وشاهد إبراهيم وهو يسير على مهل القطط تنفذ إلى المطابخ من الأبواب الخلفية وحاول أن يحصى عبر الشوارع الصامته الملاهى الراقصة فى قطاع مخروطى يضم الآلاف المؤلفة منها ويتيه بأجمل بنات طوكيو .. وأجمل الغوانى على الإطلاق ..
    ولكن الكآبة التى طالعته بها هذه البنايات فى النهار وصمتها الأخرس رده عن بغيته وعداه الصمت فأحس بالانقباض .. فأسرع خارجا إلى شارع جنزا نفسه قلب المدينة وهناك أحس بأنفاس الحياة وظل يتابع سيره حتى بلغ حى شمباسى ..
    وكان يسرع فى مشيته ويضم معطفه على صدره ليحس بالدفء فى يوم بدا شديد البرودة من أيام ديسمبر ..
     وأخذت المدينة الضخمة تستيقظ بكل ما فيها من حركة وحيوية دافقة وسرته هذه الحركة فاتخذ جانب الرصيف ليتفادى السيارات المنطلقة كالسهام واختلط مع جموع الناس الوافدة على قلب العاصمة ..
     النساء والرجال من كل الأعمار فى الكومينو والزى الأوربى ينطلقون مع إشراق الشمس إلى عملهم وعلى وجوههم بسمة الصباح .. وكان يميز أقدام الفتيات وراءه بحركتهن السريعة الرشيقة فإذا اجتزنه بدت السيقان العارية تتألق تحت المعاطف الأرجوانية ..
     وسحره الجو كله .. فمضى فى الشوارع على غير وجهة يستعرض الحوانيت إلى أن وجد مطعما شعبيا جذبه يعرض أصنافه اللذيذة فى الواجهة فدخل ليأكل وكان قد بارح الفندق قبل أن يتناول الإفطار .. واتخذ مكانه .. إلى مائدة قريبة من النافذة المطلة على الشارع ليرى منها العابرين .. وأزاح الستار الخفيف القريب منه وأخذ يحدق فيما حوله .. وكان المطعم مثلث الشكل وقد صفت الموائد وعليها الزهريات .. والأكواب .. فى تنسيق رائع .. وبدت الألوان الزاهية والقناديل المضاءة حتى فى النهار تضفى على المكان جوا حالما ..
وأحس بالارتياح ..
     وانحنت أمامه فتاة فى لباس أزرق وقدمت له فوطة يتصاعد منها البخار .. وسألته عما يطلب فمسح يديه ووجهه بالفوطة الساخنة ورفع بصره إلى عينيها وابتسم وطلب عصير البرتقال وقطعة من الجبن وصحنا شعبيا كان موضوعا فى الواجهة ورآه قبل أن يدخل ..
     ولما فرغ من الطعام شرب فنجانا من القهوة .. وأخذ يدور ببصره فى الزبائن وكان هناك سلم جانبى صغير يفضى إلى الدور العلوى .. فشاهد بعض الرواد يصعدون إليه .. وينزلون منه ..
     وامتلأ المطعم بالزبائن فى مدى دقائق قليلة .. ثم فرغ وبقى إبراهيم مع من بقى منهم فى الدور الأرضى يدخن سيجارة ويتطلع من وراء النافذة إلى الطريق .. وشاهد من مكانه وهو ينفث دخان سيجارته رجلا يتخطى عتبة المطعم فى تردد ثم بصر به يجلس إلى مائدة قريبة منه .. متصلبا فى جلسته وأخذ يدير عينين قلقتين فى المكان وانحنت أمامه الفتاة تسأله عما يأكل بعد أن قدمت له الفوطة المعتادة وطلب صحنا واحدا وأخذ يأكل بسرعة ونهم .. وتعلق بصر إبراهيم به لما رآه يحادث الفتاة بالإنجليزية إذ عرف أنه غريب .. وكانت ملامح وجهه شرقية وخمن أنه هندى أو باكستانى أو إيرانى أو من أى بلد آخر من ربوع آسيا ..
وكان عجوزا يرتدى بدلة اوروبية ..
     ولما فرغ من الطعام ظل فى مكانه لا يطرف وشغل عنه إبراهيم بمراقبة المارة فى الطريق .. ثم تنبه على صوت الفتاة وهى تحادث الرجل .. بصوت أرتفع لأول مرة فى جو المكان ..
ورأى وجه العجوز قد احتقن وارتعشت شفتاه ..
     وازداد خجله واضطرابه لما لاحظ أن الموجودين استمعوا إلى حديث الفتاة باليابانية .. وأحسوا بحاله وعرفوا أنه دخل المطعم وأكل وليس فى جيبه ين واحد .. يدفع به ثمن الوجبة ..
     ومرت دقيقة صمت شخصت فيها الأبصار وتعلقت بالرجل الذى اطرق برأسه واجما ملتاعا وانتقلت الفتاة العاملة فى خلالها إلى السيدة الجالسة على البنك فهزت هذه رأسها مبتسمة .. كأنها اعتادت على مثل هذه الأشياء وأخيرا همست فى أذن الفتاة بأن تترك الرجل يذهب لحال سبيله ..
     وفى الحال خرج العجوز من المطعم مخذول النفس .. وشعر إبراهيم وهو يراقبه بالألم النفسى الشديد .. وعلى الأخص والرجل غريب مثله عن اليابان.. شعر بأخوة إنسانية .. وتذكر حالة .. مرت عليه عندما كان يدرس فى باريس منذ عشر سنوات .. وفرغ ما فى جيبه من نقود وانتظر تحويلا على البنك من القاهرة ولكن المبلغ تأخر وصوله فقضى هناك أياما سوداء ..
     وكانت صاحبة البنسيون فى كل صباح تخرج حقيبته وتضعها بجوار الباب الخارجى كانت كل صباح تحاول طرده .. تذكر هذه الأيام السوداء وتذكر الجوع الذى يذل النفس البشرية ويعذبها العذاب الأخرس ..
     لقد شعر من قبل بمثل لوعة هذا الرجل .. وعذابه وضياعه ..
     وبارح إبراهيم المطعم ومشى فى الطريق وهو يحس بغصة فى حلقه وأسرع ليلحق بالرجل ويعطيه ألف ين أو ألفين حتى يتدبر حالته وندم لأنه لم يخرج وراء الرجل فى وقتها .. أو لم يقم بأى حركة ليغطى موقف الرجل المسكين فى المطعم فقد تركه حتى أذلت كبرياءه وإنسانيته فتاة فى عمر حفيدته ..
     وظل يبحث عن الرجل مدة ساعة فى كل مكان فلم يعثر له على أثر .. ضاع فى مدينة فى اتساع المحيط ..
     وفى أثناء تجواله بحثا عن الرجل اقترب من ملهى « الحريم » .. وشاهد بجوار أبواب الملهى المغلقة وتحت جداره صفا من ماسحى الأحذية من الجنسين رجالا ونساء وراء صناديقهم الزاهية ..
     وكان يراهم لأول مرة فسر لمنظرهم الغريب وكان من بينهم فتيات جميلات جدا فزاد تعجبه .. وظل ينقل عينيه من واحدة إلى أخرى كأنه يبحث عن ممثلة تصلح لدور فى رواية سيقوم بإخراجها .. إلى أن استقر بصره على فتاة فى العشرين ربيعا شاقه منظرها فتقدم إليها وراحت تتأمله وراء أهدابها الطويلة وعلى خديها الاحمرار حين وضع رجله على الصندوق .. وكانت ترتدى حرملة زرقاء وتعصب رأسها بمنديل فبدت له كفلاحة مصرية وبدأت فى عملها تحرك الفرشاة برشاقة وعيناها على طفل يحبو بجوارها .. ولم تكن تعرف غير اليابانية فأخذ يخاطبها بالإشارة ما استطاع وكان يود أن يسألها مئات الأسئلة عن ألاف الأشياء فقد بهره جمالها ..
     وكان أول سؤال خطر على باله لماذا لا تمثلين فى السينما .. ليس هناك من يحمل مثل وجهك المعبر ..
     وأعطاها قطعة فضية من ذات المائة ين .. ولما أرادت أن ترد له الباقى وضعه فى يد الطفل فنظرت الأم إليه بعين شاكرة .. وكأنه أراد بهذه الحركة أن يعوض ما فاته من عدم انقاذه للرجل المسكين .. الذى ضاع منذ ساعات فى زحمة المدينة ..
     وظل يلف ويدور فى المدينة الكبيرة .. وكان لا يستغرب أن يموت فيها إنسان من الجوع .. دون أن يشعر به أحد .. فمثل هذه المدينة تموت فيها الأسماك الضعيفة دون ضجة كما يموت السمك فى المحيط ..
     وعندما ذهب إلى الفندق ليستريح ساعة قبل الغذاء .. كانت فتاة الفندق سايونارا فى نوبة عملها ..
     وسألته كعادتها :
     ـ أين قضيت الصباح .. ؟
     ـ تجولت فى جنزا .. وفى حى شمباسى ..
     ـ وسررت من هذه الجولة .. ؟
     ـ أجل .. رأيت أروع المناظر على الإطلاق ..
     ـ ولم تذهب لنادى السينما .. ؟
     ـ سأذهب غدا ..
     وكانت تعرف أنه قدم من القاهرة مع بعثة فنية سينمائية .. وعاد رفاقه إلى القاهرة وبقى وحده فى طوكيو ليستكمل دراسته عن الإخراج فى اليابان ..
     كانت قد حملت له غسيلا مكويا وفتحت الدولاب وأخذت ترتب ملابسه بعناية .. وتأملها بعينيه فى شغف .. أعجب بها من اليوم الأول لوجوده فى هذا الفندق .. منذ أسبوعين .. كانت أول من تناول حقائبه .. وأول من حمل له زهرية الورد ورآها دمثة الطباع رقيقة .. وكان يعجب بطريقتها فى تزيين نفسها وتصفيف شعرها كما يعجب برشاقتها وجمال قوامها وبشرتها النضرة وعينيها نصف المغمضتين .. وأحس أنه شغف بها جدا وكان فى الواقع يلف ويدور حولها كما تلف الفراشة حول النار .. ولكن سايونارا لم تكن تبادله حبه أو تقدر عواطفه ..
     وكان الفندق من الفنادق المتوسطة وأجره زهيد .. وقد اختاره إبراهيم ليقضى بما معه من نقود أطول أيام ممكنة فى طوكيو ..
     وكانت غرفته جميلة .. وكل ما فيها صغير .. السرير صغير .. والدولاب صغير .. والمنضدة صغيرة وكانت مع صغرها تحتوى على كل شىء ..
     وكان من عادة إبراهيم ألا ينزل قاعة الطعام فى الدور الأول ليتناول الوجبات إلا فى النادر .. وكان يطلب الطعام فى حجرته لتحمله له سايونارا.. ويجد فرصة لمحادثتها طويلا ..
     وسألته :
     ـ هل تغديت فى الخارج .. ؟
     ـ أبدا وأرجوك أن تطلبى لى الغذاء ..
     وخرجت .. وعادت بعد قليل تحمل له الطعام ورأى وهى داخلة الغرفة الصينية تتمايل بين يديها .. فأحس برعشة وانزعج جدًا ..
     ولاحظت اضطرابه بجانب عينيها .. فارخت أهدابها ..
     وسألها مصفر الوجه :
     ـ زلزال ..؟
     ـ أجل .. وليس هو الأول ولا الأخير ..
     ـ تعنين أنه ستحدث زلازل أخرى ..
     ـ بالطبع .. وما أكثر الزلازل فى طوكيو .. إنها تحدث ولا نأبه لها .. هل أنت خائف ..؟
     ـ طبعا .. لم أتعود عليها .. 
     ـ كيف ستتزوج وكيف تحمى زوجتك إذا خفت من شىء بسيط كهذا ..؟
     ـ وأنت ألا تخافين ..؟
     ـ أبدا .. 
     ـ إنك تخافين أكثر منى .. وكل إنسان فى طوكيو يخاف ويتوقع حدوث شىء فى كل لحظة ولهذا يوجد عشرون ألف ملهى فى المدينة تعمل إلى الصباح ..
     ـ ولكنك تخاف من الأشياء البسيطة إنك تخاف من البرد .. ومن جرح صغير بآلة الحلاقة ومن الطعام .. ومن تلوث ملابسك فى الغسيل .. وتغلق عليك الباب بالمفتاح فى النهار .. !
     وغاظه هذا وأخذ يحدق فيها وقد قطب حاجبيه وقال بصوت جاف ..
    ـ قد يكون هذا لأننى قلق ومللت حياة الفن .. التمثيل والإخراج وكل ما تأتى به السينما من صناعة .. كل هذا باطل .. ولقد سافرت لأجدد حياتى.. ولكن أحداث العالم تهزنى وأصبحت أخاف ولا أطيق هذه الحياة ..
     ـ ومم تخاف ..؟
     ـ من الموت فى الغربة .. من السقوط من طائرة .. من الحرب الذرية .. من موت الأطفال الصغار والنساء .. من فظاعة الحروب .. من كل شىء لا نستطيع دفعه .. بأيدينا ولا حول ولا قوة لنا فيه .. فى هذه الحياة ..
     ـ وكيف تخلو الحياة من هذا ..؟
     ـ نستطيع ذلك إذا أردنا ، لقد قابلت وأنا اتجول فى طوكيو .. وأزور دور الفنون .. الرجال الذين خاضوا الحرب وذاقوا ويلاتها وهم مثل كل رجل عاقل فى العالم يرغبون فى السلام .. لأنهم تألموا كثيرا ..
     إن الرجال فى العالم كله لا يرغبون فى القتال ولا يؤمنون بالحرب أبدا .. ولا يمكن أن يفكروا فيها ..
     لقد رأيت فى هذه المدينة الكبيرة المتسولين والعجزة والجياع .. وهذا كله نتيجة للحرب .. والسلام سيحمل فى طياته السعادة للبشرية والرخاء والأمان والحرية التى يتطلبها كل إنسان ..
     وضحكت سايونارا لحماسته وأحلامه وسألته :
     ـ لماذا لا تعمل فيلما عن السلام فى العالم ..؟
     ـ سأعمل ..
     وتركها تدخل الحمام الجانبى وخرجت بعد أن غيرت الفوط ..
     وحملت صينية الطعام وخرجت وأغلقت وراءها الباب .. ونام إبراهيم إلى الخامسة مساء ونهض .. واقترب من النافذة متطلعا إلى الطريق .. كان الطقس باردا وكان الناس يخرجون من المترو .. ومن محطات السيارات وينطلقون فى الشوارع إلى بيوتهم ..
    وكانت فى مواجهة الفندق بناية عالية من خمسة عشر طابقا وقد بدت نوافذها البلورية مضاءة فى النهار .. كانت المصابيح كلها مضاءة فى داخل المبنى الذى يضم شركة كبيرة من شركات الإطارات .. ولاحظ الفتيات اليابانيات يحملن الأوراق فى أيديهن ويتنقلن من غرفة إلى غرفة أو يجلسن وينقرن على الآلة الكاتبة .. وكن فى لباس أوربى متأنق وشعرهن الأسود المقصوص .. يبدو فوق رءوسهن كالتاج ولما دخل الليل سمع حبات المطر تقرع البلور فى البنايات الشاهقة وأخذ ظل المصابيح يسبح .. على الأرض المبتلة وظلت الحركة فى الشوارع والطرقات ، على أشدها ..
     وكانت السيارات تبدو صغيرة من بعيد وهى تنهب الأرض فى سرعة جنونية .. وظهرت معاطف النايلون تغطى أجسام النساء المارات فى الطريق وكانت شفافة مبهجة تكشف عن جمال الأجسام ورشاقتها ..
     أخذت المدينة التى أضيئت كل مصابيحها تسبح تحت الماء المتساقط .. وأحس إبراهيم وهو واقف بجانب النافذة برأسه يرتطم بالزجاج واصفر وجهه ، لقد كان الزلزال أشد عنفا فى هذه المرة لكن فى جزء من الثانية حدث هذا ولو كان نائما أو مستلقيا ما شعر به ..
     وقرع الجرس فجاءت سايونارا وطلب شايا .. ولما رأته مصفر الوجه ضحكت ..
     وألقى نظرة أخيرة على الماء المتساقط واستدار إليها وأمسك بيدها .. وكانت تبحث بنظرها عن حلمها .. عن الرجل الذى تحلم بمثله الفتاة ولكنها لم تجده فى كل المرات أهلا لها .. وسحبت يدها برفق من يده ..
      وقالت بعين ناعسة وهى تحمل الصينية وتأخذ طريق الباب ..
     ـ إن ورائى عمل المساء كله .. وكيسا لم تأت اليوم ..
     ـ ولكنى أحبك ..
     ـ أعرف هذا .. من اليوم الأول ..
     ـ وأنت ما شعورك .. ؟
     ـ إننى عاملة فى الفندق .. ليس إلا .. وليس مسموحا لى أن أبادل النزلاء عواطفهم ..
     وصمتت مستاءة من نفسها ..
     واستدارت وانحنت على الصينية برشاقة ولاحظ يديها الجميلتين الدقيقتين والبشرة الناعمة والقميص الحريرى الأزرق الذى يغطى الجسم كله .. واستداره الفخذ وهى تنحنى وتنتصب ..
      ومنذ دخلت عليه الغرفة من خمسة عشر يوما وهو يحس بالرغبة فى أن يلامس بشفتيه بشرتها ولكنها كانت ترده فى رفق وفكر فى نفسه أنها مغرورة أكثر مما ينبغى .. أو جميلة جدا وما أكثر النساء الجميلات فى الطريق .. وفى الفندق نفسه ..
     وبعد أن صفقت سايونارا وراءها الباب ساد صمت طويل ..
     وإستلقى إبراهيم وهو يدخن ثم فكر فى أن يخرج إلى الشارع .. فتناول معطفه وخرج إلى الطرقة فرأى أمامه العجوز المسكين الذى شاهده فى المطعم .. يدخل إحدى الغرف الجانبية وهو يتلفت كالفار المذعور ..
     وعجب إبراهيم لأن الرجل يقيم معه فى جناح واحد وما وقعت عليه عيناه من قبل أبدا .. وشعر بالأسف .. ولم يجد غير سايونارا أمامه فعاد إلى غرفته وطلبها وسألها عن الرجل .. فقالت له إن العجوز باكستانى .. وكان رجل أعمال يتنقل فى البلاد .. ثم أفلس أخيرا وتراكمت عليه الديون وضاقت فى وجهه الحياة .. ومنذ ثلاثة شهور لم يدفع أجر الفندق وينتظر دائما العون من الخارج ينتظر أن تأتيه تحويلات مالية وشيكات ويسأل عنها فى كل ساعة .. ولكن لا تأتيه رسائل ولا أى شىء على الإطلاق .. وأخيرا نقله صاحب الفندق من غرفته فى الطابق الثانى إلى غرفة خانقة تمهيدا لطرده من الفندق ..
     وسألها إبراهيم ..
     ـ وكيف يعيش هذا المسكين .. ؟
     ـ لا أدرى ..
     ولاحظ إبراهيم أن التأثر بدا على وجه الفتاة وهى تحدثه عن هذا الرجل المسكين حتى ترقرق فى عينيها الدمع ..
     وشعر إبراهيم بالكآبة بعد سماعه قصة الرجل .. ولمس أكرة الباب وخرج من الفندق مكروب النفس ..
     كان الضوء يرتجف فى الشارع تحت المطر .. وكانت تموجات هائلة من الهواء تصفر ، وشعر بأنه قد تحرر من الكآبة التى أحس بها فى داخل الغرفة .. ومن اسار المرأة التى تقابل حبه بالصدود ، وأرسل بصره إلى انعكاسات الأضواء على الأرض الملتهبة وكان على موعد مع صديق يابانى فى أحد الأندية الفنية فى الساعة الثامنة .. فذهب إليه ومن هناك انطلقا معا إلى ملهى « الكوين بى » ..
     وفى الملهى فكر فى جولة صباحية بالمترو .. ليشاهد الريف اليابانى على الطبيعة ..
***
     وقبل أن يخرج من الفندق بحث عن العجوز الفقير .. ليحادثه ويعينه بطريقة لا تجرح إحساسه .. ولكنه وجده قد بارح الفندق منذ الشروق ..
     واتخذ إبراهيم طريقه إلى المترو الذى يسير تحت الأرض لم يكن يقصد وجهة معينة .. ألقى بعشرين ينا فى الآلة الأتوماتيكية والتقط التذكرة ودخل منها إلى المحطة ..
وركب القطار .. الذى انطلق كالسهم وبعد أن اخترق النفق أصبح يسير على مستوى الأرض .. وسط الريف .. وشاهد إبراهيم البيوت الخشبية الواطئة .. ومزارع الأرز والورود من كل الألوان الزاهية وشجر التفاح وأشجار الكرز وأشجار الخيزران وكلها مزهرة والبالونات الورقية الملونة على واجهات البيوت .. ورءوس الشوارع ..
       ورأى اليابانيين فى بيوتهم وقراهم .. فى القطار وفى المزارع وفى الشوارع ، لابسين الكومينو والملابس الأوربية ..
     وفكر وهو ينظر من نافذة القطار ويشاهد البيوت والناس .. لقد ألقيت القنابل هنا ودارت الحرب فى طوكيو .. وفى هيروشيما وفى نجازاكى ألقيت القنابل الذرية وحل الموت والخراب والهزيمة .. ومات الألوف من جراء سقوط القنابل وتيتم الأطفال وترمل النساء ولكن الشعب فى مجموعة خرج سليما وعاش .. وفى أقل من عشرين سنة أصبح من أقوى الدول الصناعية فى العالم ..
     ومثل هذ الشعب سيعيش فى آسيا ويظل مزدهرا .. كما تعيش الهند والصين وسيلان واندونسيا ويعمل للسلام .. لأن الحرب دمار وفناء ..
     وتصور القطار منطلقا به فى الهند والصين وباكستان وسيلان واندونسيا .. وكل البلاد الجميلة التى تحررت من رق الإستعمار ..
     وأغلق عينيه ليتأمل الحلم كله .. حين فتح عينيه وجد يابانيا ربعا غليظ العنق يتأمله فى سكون وكان يرتدى كومينو أسمر وله لحية مدببة ..
     وقال له إبراهيم بالإنجليزية :
     ـ إن الريف فى بلادكم جميل .. فنظر إليه اليابانى ضاحكا .. ولم يفهم لأنه لا يعرف الإنجليزية ولكنه حنى رأسه مرتين ..
     كان بالأخوة الحبيبة يعرف أن الغريب يثنى على بلاده ..
     وكان اليابانى يود أن يشرح لإبراهيم ما يراه حوله .. المحطات .. وأسماء القرى التى يخترقها القطار وكل ما يشاهده من ريف ساحر ، إن التفاح الجميل يزرع هنا .. وكذلك الكرز والبرقوق .. وكل الفواكه الحلوة التى أكلها فى طوكيو ..
     وأحس بسحر الأخوة وانطلق مع القطار ونسى نفسه كانت البهجة تحيط به من كل مكان ..
     ولما رجع بالقطار التالى إلى قلب طوكيو .. أحس بأن روحه .. قد ردت إليه ..
     ولما خرج من النفق نظر إلى حذائه وأحس بالرغبة فى أن يشاهد اليابانية الجميلة ويضع قدمه على صندوقها الزاهى الألوان ..
     ووجد بجوارها شابا مقطوع الذراع يحتضن الطفل .. ولما اقترب منها إبراهيم ابتسمت وحدثته بالإشارة وبما تعرفه من كلمات إنجليزية قليلة أنها تزوجت من هذا الشاب ..
     وأدرك أنها ظلت تبحث عن الأمان حتى وجدته .. وتمنى لها السعادة .. ووضع فى يد الطفل مائة ين .. وتركها وهو يحس بأنه ليس فى حاجة لأن يذهب إليها مرة أخرى ..
     ودخل غرفته فى الفندق وهو يحس بأنه كان يحب هذه الفتاة العاملة فى الطريق كما أحب سايونارا وربما أكثر من سايونارا .. ولكن سايونارا قريبة منه دائما .. وأبدا تحرك فيه جذوة النار ..
     وبحث عن الرجل الباكستانى فلم يجده قد عاد .. فتغذى إبراهيم ونام إلى العصر ..
     وفى الليل خرج إلى حى جنزا المتألق وكانت المدينة كلها ترقص وتستقبل العام الجديد وفكر أن يشترى هدية جميلة لسايونارا ورأى مئات الأشياء الجميلة واحتار فيما يختار .. ثم رأى أن يستدرجها بالحديث فربما أبدت له رغبتها فى شىء معين ..
      ولما فاتحها فى الأمر فى الليل .. وكان على أهبة أن ينام ..
     سألته كالمستغربة :
     ـ ستشترى لى هدية .. ولماذا .. ؟
     ـ لانى أحبك .. وستظل هذه الأيام أجمل أيام حياتى ..
     ـ وما الذى اخترته .. ؟
     ـ رأيت أشياء كثيرة .. ولهذا أسألك ..
     وفكرت .. ثم قالت بهمس :
     ـ أعطنى النقود وأنا اشترى لنفسى ..
     وأخرج ورقتين كل واحدة بخمسة آلاف ين ووضعها فى يدها واهتزت من الفرحة كانت تقدر أنه سيعطيها ألف ين فإذا به يقدم لها عشرة آلاف ..
     ونظرت إلى الورقتين فى فرحة كانتا جديدتين ولاحظت عليهما كتابة لم تفهمها ..
     ـ ما هذا .. ؟
     ـ إنى أسجل اسمى بالعربية على بعض الأوراق المالية التى فى جيبى كتذكار .. وهات الورقتين لأكتب عليهما أسمك أيضا بجوار أسمى ..
     ـ لقد تضاعفت قيمتها بتوقيعك ..
وضحك .. وطوت النقود فى صدرها ..
      وقالت بنشوة :
     ـ والآن سأعد لك حماما تركيا .. قبل أن تنام وأدلك جسمك بعد البخار..
      وأمسك بيدها .. فى غمرة نشوتها .. وفى سكينة لذيذة احتضنها .. وقبل شعرها وعنقها وشفتيها وشعر فى أعماقه بالإحساس الجميل بالحياة وتركت نفسها بين ذراعيه .. وكان خلفهما الباب المغلق ..
     وفى الصباح .. رأى إبراهيم العشرة آلاف ين وعليها توقيعة فى يد الرجل العجوز المسكين وكان يتقدم بهما إلى كاتب الفندق ليدفع الحساب وكان فى حالة من النشوة تدل على أنه قد عاد إلى الحياة ..



================================  
نشرت القصة  فى مجلة آخر ساعة  بتاريخ 16/5/1962 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
================================







العودة



       كان الليل قد انتصف .. وكان قطار الركاب القادم من محطة أسيوط يدخل حدود المنيا ووراءه خط أسود من الدخان ..
       وكان بعض الركاب نائمين .. وبعضهم قد أخذ حظه من النوم ومسح عن جفونه غبار الكرى وأخذ يدخن ويثرثر .. وكانوا جالسين القرفصاء على الكراسى .. ومنكمشين فى الملاحف ومتاعهم على الرفوف .. وملقى فى الممر فى فوضى عجيبة وكان الدخان المتسلل من النوافذ يسبح فى سماء العربات مختلطا مع أنفاسهم فزاد الجو اختناقا ..
       وكان القطار فى جملته قذرا وكئيبا وعرباته متهالكة والمقاعد الجلدية ممزقة .. والنوافذ بالية . ومن العسير استعمالها فتراكمت عليها طبقات كثيفة من الشحم والغبار ..
       وكانت الإضاءة ضعيفة .. وتتدلى من سقف العربات قناديل كهربائية باهتة وبعضها لا يزال مطليا باللون الأزرق ..
       وترنح القطار أخيرا .. وحازى الرصيف وأخذت الأضواء الباهرة فى المحطة الكبيرة .. تكشف جسم القطار الخارجى للعيان .. وتعبر النوافذ إلى داخله فبدت أثار الأقدام فى الممرات وبقايا الطعام على الأرض وتحت المقاعد .. والركاب فى الجلاليب .. والزعابيط والبدل وعلى رءوسهم اللبد .. والطرابيش .. ومتلفعين بالكوفيات ولابسين المعاطف ..
     وكانت ريح الشتاء تهب على المحطة والأمطار قد غسلت الأرض والتمعت بسببها المصابيح وتوهجت .. ولكن رغم الأمطار فإن المحطة كانت عامرة بالركاب الجدد ..
       وتحرك القطار .. وهو يصفر وكان هناك شاب قد تسلل إليه فى اللحظة الأخيرة كأنه يركب من غير تذكرة .. وكان ملفعا من البرد .. ويرتدى بنطلونا رماديا على أسمر .. وقد دخل العربة وهو يتحرك بجسمه الناحل فى سهولة وسرعة إلى العربات الأمامية كأنه يتعقب شخصا هناك .. وبلغ الطرقة الملتوية التى تصل بين عربات الدرجة الثانية وعربة الدرجة الأولى .. ووقف هناك برهة يأخذ أنفاسه .. وعيناه تحدقان من خلال الممر .. ثم انفتل راجعا فى هدوء وحذر .. ووجد مكاناً فى ديوان من دواوين الدرجة الثانية داخل مقصورة يشغلها رجل و امرأتان ..
       وكانت المرأتان تلبسان السواد .. والكبيرة منهما تغطى رأسها بطرحة .. دارت بطيه من أعلى جيدها .. والصغرى كانت عارية الرأس .. وعلى وجهها سمات الحزن ..
       وكان الرجل يجاوز الخمسين من عمره .. صغير الوجه والجسم وفى جبينه تجاعيد الزمن وكان يلبس معطف السفر وتحته بذلة رمادية باهتة حشى جيوبها بالأوراق ..
وكان واضعا نظارة وسلكها النحاس ترك علامة أبدية فوق أنفه .. وكان رغم الضوء الباهت يراجع فواتير فى يده .. وبجواره حقيبة جلدية ممزقة الجوانب تركها مفتوحة وضع فوقها منديلا أخضر يمسح به من حين إلى آخر التراب من وجهه ثم يضعه مكانه ..
وكان الشاب جالسا فى صمت منذ دخل المقصورة .. ولكنه كان يراقب ما حوله بعينى صقر ..
وكان قد قعد مما يلى الباب مباشرة وعيناه مسددتان على الممر .. يرقب كل حركة فيه .. ولم يكن يعير باله إلى ما يجرى فى الداخل ..
وكانت السيدة العارية الرأس جالسة فى مواجهة الشاب مباشرة وشابة مثله لا تتعدى العشرين وكنت تبكى بحرقة منذ تحرك القطار .. وكان يبدو عليها الاستحياء من الرجلين الغريبين الجالسين معها ، هى ووالدتها فى المقصورة .. وتحاول أن تحبس عبراتها ولكن عواطفها كانت أقوى من إرادتها فظلت رغم أنفها تبكى ..
وكان الرجل المشغول بأوراقه قد أعاد الفواتير إلى الحقيبة ويبدو عليه أنه اعتاد على بكاء النساء فى القطارات ولم يعد المنظر يثيره أو يحرك عواطفه أو لعله رأى أن يترك الفتاة الثكلى تنفث أحزانها .. وإنما أخذت عيناه الواسعتان تنظران بريبة ودون أن يشعر بأقل بهجة إلى الراكب الجديد ، وكان هذا قد مال برأسه جانبا .. وأرخى جفنيه ولكنه كان ينظر بعينى الذئب ..
وكان بكاء الفتاة الذى طال قد أحزنه وحرك عواطف قلبه أولا ثم ما لبث أن شعر بالفرحة وهو يتصور زوجة محفوظ وابنته عندما تلبسان السواد كهذين .. وتنوحان عليه مثل ما تنوح هذه الفتاة ..
وزاده وجود المرأتين فى ملابس الحداد عزما وتصميما على تنفيذ قصده .. ورأى أن القدر يمهد له السبيل بأسرع مما قدر ..
وكان لا يزال فى صمته والرجل الجالس بجواره قد طوى أوراقه واشعل لنفسه سيجارة .. وأخذ يتفرس فى وجهه ..
وكان الرجل قومسيونجيا متنقلا ومن طبيعة عمله الكلام .. فغاظه صمت الشاب .. وكان يقضى معظم حياته مسافرا فى القطارات ومتحدثا مع الناس .. وكان يحركهم ويثير عواطفهم بكلمة طيبة ويعقد معهم الصفقات .. ولكنه لم يستطع التحدث حتى الآن مع هذا الشاب .. ونظر إليه طويلا ثم تحول عنه كأنه يسقطه من حسابه ..
وكانت الفتاة فى هذه اللحظة قد خففت عبراتها .. فأخذ القومسيونجى يتحدث مع والدتها ويخفف عليهما وقع الفاجعة ويواسيهما .. وكان قد علم بوفاة والد الفتاة وزوج السيدة فجأة وهو فى مهمة فى القاهرة .. بعيدا عنهما .. فتألم وأخذ فى مواساتهما .. وانطلق يسح بالقول ويفيض كالسيل .. ويتحدث فى كل الشئون ..
وكان يغيظه أن الشاب لم يشترك معهم فى الحديث ولم يواس السيدتين ولو بكلمة .. وكان الشاب يبدو متجهما ولا يحب أن يفتح صدره لأحد ..
وكان من الواضح أنه متوتر الأعصاب جدا ويبدوعلى حالة تعيسة من القلق وكان يتحسس من وقت لآخر شيئا وضعه فى جيبه الأيمن ليتأكد من وجوده ..
وكان يتفرس فى الوجوه التى تعبر ممر العربة المعتم .. ثم يرتد بصره إلى لوحة معلقة فى داخل المقصورة تعرض آثار قدماء المصريين فى معبد الكرنك .. ومنها ينتقل بنظره إلى الفتاة الجالسة أمامه ..
وكانت الفتاة قد وضعت جبينها على زجاج النافذة .. وأخذت تعبث فى شيء فى يدها .. ولم يكن يغيب عنها رغم حزنها والحالة التى هى عليها نظرات الشاب ..
كانت نظرات حنونة .. رغم القلق الذى فى عينيه ..
وكانت الفتاة بملابس الحداد جميلة وفى عينيها جمال مثير وكانت بعد أن مسحت عبراتها وهدأت نفسها تماما من العاصفة التى حلت بها قد أخذت تحدق فى الصور الفوتوغرافية المعلقة تحت الرفوف وتتطلع إلى القومسيونجى وهو يدخن ..
وكانت رائحة الدخان قد أخذت تزكم الأنوف وتملأ المكان فسألها بلطف :
ـ هل يضايقك .. الدخان ..؟
ـ أبدا خذ راحتك ..
وقال الرجل مبتسما فى تمهل :
ـ أنه مصيبة .. ولكنى لا أكتفى بأن أحمل المصيبة وحدى وإنما أدور بها وأوزعها على الناس ..
وفتح الشاب فمه لأول مرة .. وكان قد لمح من قبل شيئا فى الفواتير التى فى يد الرجل ..
ـ حضرتك وكيل ماتوسيان ..؟
ـ قومسيونجى فى الشركة .. ومن ثلاثين سنة وأنا أركب القطارات فى هذا الخط وقد عرفت كل الناس وبدأت عملى وأنا فى سنك .. ومن خمسة وثلاثين سنة وأنا أحرق الدخان .. ولو حسبنا ما صرفناه أنا وأسرتى من قديم الزمان .. فى سبيل الدخان .. كنا امتلكنا زمام القرية أو بنينا أضخم عمارة فى القاهرة ..!
ـ وهل ربحت كثيرا ..؟
ـ بالطبع .. هل تفكر أن تقوم بمثل عملى ..
ـ ولماذا .. لا ..؟
ـ تستطيع أن تفعل الكثير .. ولكن ليس الربح هو وجه المسألة ..
ـ ما هو وجهها إذن ..؟
ـ هو أن تبدأ الحياة بداية شريفة .. والباقى يأتى تلقائيا .. تعرف عبد الرحمن إسماعيل .. التاجر الكبير فى ملوى ..
ـ أسمع عنه ..
ـ كان والده يبيع التمباك .. والصابون .. والمناديل المحلاوى .. وبكر الخيط .. فى دكان صغير فى قرية نائية فى الصعيد وجاءه أحد الأشرار يطلب منه باكو دخان .. وكان الشرير مماطلا بطبعه فرفض والد عبد الرحمن أن يبيعه بالأجل .. فصوب الشرير إليه بندقيتة فى الحال وسقط الرجل .. فى عز ظهر الجمعة .. وخرج الناس من مسجد القرية .. فوجدوه مقتولا والقاتل يتبختر على الجسر .. ومع ذلك عندما سئل المصلون فى التحقيق لم يقل أحد منهم كلمة صدق ويشهد بما رأى .. وذهب دم الرجل المسكين هدرا ..
وكان عبد الرحمن وحيد أبويه .. صغيرا فى كتاب القرية .. يحفظ القرآن ومن أسرة فقيرة ولا عصبية له .. فأخذ يفكر هل يلقى الكتاب من يده .. ويحمل بندقية وخنجرا .. ليقتل قاتل والده .. ويصبح فاتكا مثله أم يترك هذا الشر كله .. ويذهب بوالدته إلى المدينة ..؟ واستقر على أن يرحل .. وباع الدكان ورحل إلى المدينة .. وهناك بدأ فى محل صغير .. وقد عوضه الله لسماحته .. فأصبح من أكبر التجار ..
ـ ودم والده ..؟
ـ عند الله .. والسماحة أعلى صفات البشر .. والحياة جميلة .. فلماذا نمزق وجهها بالرصاص ..؟     
وكان هذا الصوت كأنما يحكى قصة حياته هو .. وقد أيقظ فى الشاب شيئا جديدا ..
ومع أنه لم يقتنع تماما بكلام القومسيونجى ولكنه لم يعقب عليه .. وأجاب عليه بالصمت .. وكان رأسه فى الواقع يشتعل ويدور كالدوامة .. وكان يود أن يخرج من المقصورة وينفرد بنفسه لحظات فى الطرقة .. ولكنه خشى أن يشاهده الرجل الآخر ويعرف أنه يتعقبه فتضيع منه الفرصة إلى الأبد .. فظل فى مكانه .. يرقب ما حوله .. ولمح شخصا فى جسم مطارده فى الطرقة يقبل عن بعد فحدق بكل عينيه .. ثم لما اقترب الرجل غاص فى المقعد بكل جسمه .. وحول وجهه عنه ومرت دقيقة واحدة .. أحس فيها بأنفاسه تختنق وقلبه يرقص بين ضلوعه ..  ثم وجد نفسه يفتح باب المقصورة ويخرج فى أثر الرجل وأقدامه لا تكاد تلامس أرض العربة .. وأمام باب دورة المياه عرف أنه ليس مطارده .. فوقف قرب النافذة .. ينظر من خلال الزجاج إلى القرى التى يطويها القطار وإلى الظلام فى الخارج .. وأشجار النخيل .. والجميز على حافة الترعة والغيطان الصامتة فى جهامة مطبقة ..
وشعر بهزات القطار أكثر .. ولمح وهو ينظر من النافذة مدينة صغيرة وقد أضاءت أنوارها فجأة وبدت القناديل الصغيرة .. والثريات تتلألأ وتبدد خيوط الظلام ..
وأشعره الضوء بالسكينة .. وهدأت أعصابه .. ومر به الكمسارى .. ووراءه جندى فى بدلة صفراء وأخرج للكمساري التذكرة وهو لا ينظر إلى وجهه ..
ووقف القطار على محطة صغيرة .. وكان هناك خيط من النور يضئ الرصيف فى المحطة ولم يكن فيها راكب على الإطلاق .. فأطل الشاب برأسه ولفحه الهواء البارد .. ثم أخرج مذكرة صغيرة من جيبه ودون فيها بضع كلمات ثم ردها إلى مكانها ..
وبعد أن تحرك القطار من المحطة .. ورجع الشاب إلى مكانه من المقصورة وجلس أمام الفتاة وكانت قد مسحت عينيها وخديها .. وبدت أمامه أجمل من رأى من النساء .. وشعر بهزة .. وتصور نفسه عريسا لهذه الفتاة .. وقد تنضر وجه الحياة .. وصدحت الموسيقى فى زفافهما .. ورقص الفلاحون على الخيل وبدأ حياته الزوجية كرب أسرة ولكنه ما لبث أن ارتد إلى جهامته وهو يتذكر الذى حدث منذ سنوات .. والذى عاش وكبر ليرد عليه بقوة ويسترد كرامة أسرته .. التى أذلت فى القرية .. وشعر بجسمه ينتفض .. فنهض فورا .. ومشى فى الممر إلى عربة الدرجة الأولى ويده تتلمس شيئا فى جيبه ..
ووقف أمام ديوان الشخص الذى يطارده كاتما أنفاسه .. ويده فى داخل جيبه تعبث بشيء والتصق بحواجز الأبواب واقترب وهو يتلمس المقابض .. ونظر إلى الداخل فلم ير شيئا .. وحرك باب المقصورة فسمع له صريرا مزعجا .. وكان قلبه قد توقف تماما .. وعرقه ينضح على وجهه .. ولما انفرج الباب نظر فلم يجد بداخل المقصورة أحدا.. وأدرك أنه أخطأ وأن صاحبه فى المقصورة المجاورة أو لعله .. لم يركب هذا القطار إطلاقا وأنه خدع ..
ورجع إلى مكانه من عربة الدرجة الثانية ووقف بجوار النافذة والأرض تجرى تحته ، ثم وجد نفسه يخرج الشيء الذى فى جيبه ويلقيه من النافذة ..
وفى محطة " العياط " تحرك الشاب من مكانه وهو ينظر إلى الفتاة بعين من يودع حبيبته .. ورأته الفتاة وهو ينزل متمهلاً ، ونظره إلى ناحيتها ، وفجأة لمح شيئا جعله ينتفض ، لمح غريمه الذى ظل يطارده طيلة هذه المدة يقف أمامه وجهها لوجه ..
وانتابه شعور الغضب .. وثارت دماؤه فى عروقه .. وتحسس جيبه .. وندم على أنه قد ألقى سلاحه ..
وظل فى حرقة وعاوده شعور الانتقام والتشفى بقوة سيطرت على عقله .. وفكر فى أن ينقض على غريمه بيديه ويخنقه .. وفى اللحظة التى هم فيها بتنفيذ عزمه .. سمع صوت الفتاة .. ورأى وجهها كأنها ترقبه .. فتسمر فى مكانه حتى خرج غريمه من الرصيف .. وفى نافذة القطار الصغيرة ظلت الفتاة تلاحظه بعينيها كأنها تناديه .. وكانت قد رفت على شفتيها ابتسامة خفيفة .. كأنما نسيت أحزانها ..
***
       وبدلا من أن يخرج من باب المحطة .. وجد نفسه ينطلق بأقصى سرعته .. ليلحق بآخر عربة فى القطار ..
=========================== 
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1376 بتاريخ 29/7/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================





















المحطة الجديدة

       كانت قرية بنى يوسف .. وقرية الصالحية .. قريتين متجاورتين فى الصعيد ، وكانت لهما سوق واحدة .. وزراعتهما متداخلة ومصالحهما مشتركة .. ومنازلهما وبساتينهما تكاد تكون متلاصقة .. وكانت طبيعة الأشياء تحتم الوفاق والتعاون بينهما ، بيد أنهما كانتا على طرفى نقيض .. وكان النزاع بينهما لا ينتهى أبدا ..
       كانتا تتعاركان فى سوق القرية .. وفى سوق المركز .. وعند ضم المحصول وفى سقى الأرض .. وفى الحد الفاصل للزراعة ..
       وكانت قرية بنى يوسف .. وادعة مسالمة .. وقرية الصالحية معتدية غاشمة .. يلفها ضباب من التعصب الأعمى ..
       وكانت القرية الوادعة هى التى تنتصر دائما فى كل المعارك على طول الخط حتى فى المعارك التى تدور بالسلاح .. وكان هذا يوغر صدر القرية الثانية ويثير حفيظتها على جارتها .. فتحاول الانتقام منها دائما باحراق الأجران واتلاف المحاصيل وسرقة المواشى وكان رجال السلطات يستعينون بكبار القوم فى المنطقة لإصلاح ما بينهما .. ولكن الجهود كلها كانت تذهب عبثا ، فبعد شهر واحد من جلسة الصلح يعود العداء أشد مما كان ..
       وكان على رأس القرية الوادعة السيد حسن عثمان .. ولم يكن هو العمدة أو الشيخ فيها .. ولكنه كان عميدها ، وكان الفلاحون يثقون فيه ثقة مطلقة ويضعون كل أمورهم فى يده .. وكان يفصل فى منازعاتهم ويحل مشاكلهم .. ويحاول أن يبعدهم دائما عن الشر .. ويحملهم على أن يتلقوا الإعتداءات من القرية المجاورة بالتسامح وضبط النفس .. وكان يصرف أمورهم بالكلمة الطيبة حتى غرس فيهم حب المسالمة ..
       وعندما بدأت السلطات فى إقامة الوحدات المجمعة فى الريف ، سعى سعيه حتى وفق إلى إقامة وحدة مجمعة فى القرية .. وكانت القرية قريبة من شريط السكة الحديد ، ولكن لم يكن بها محطة سكة حديد .. فبذل كل جهده وسافر للقاهرة مرة ومرات .. حتى وافقت السلطات على إنشاء محطة للقرية تحمل اسمها ..
       وافتتحت المحطة فى مطلع العام الجديد .. ورأى القرويون القطار لأول مرة يقف على محطتهم وهو يدخن .. ويحييها بالصفير .. فزغردت النسوة ورقص الرجال من الفرح وأثار ذلك حفيظة القرية الأخرى ، وزاد من غضبها ..
       وكانت المحطة مشتركة لخيرهم جميعا .. ولكن كيف تسمى باسم بنى يوسف ولا تسمى باسم قريتهم ..؟
       وكان السيد حسن يقابل هذه الجهالة العمياء بالابتسام ويحاول دائما أن يشيع فى الفلاحين روح التعاون والتآخى ، ويفهمهم أن الحياة لا تسير إلا بالوفاق والتعاون ولكنهم كانوا يضربون بهذا الكلام كله عرض الحائط ولا يقلعون عن غيهم وضلالهم أبدا ..
       وفى الأيام الثلاثة الأولى على افتتاح المحطة مر كل شيء بسلام .. ولكن فى اليوم الرابع أطلقوا النار على القطار وحطموا زجاج غرفة الناظر ليشعروا السلطات أنهم غير راضين عن الشيء الذى تم ، واستشار الضابط القضائى ، السيد حسن .. فأشار عليه بأن يعين خفيرا آخر للمحطة معروفا بالقوة وشدة المراس .. وعين عواد خفيرا للمحطة ..
       وانقطعت الحوادث جملة واحدة .. وكان الصراف يركب القطار فى الليل محملا الأموال .. ويأتى للقرية فى الصباح آمنا مطمئنا ..
       والفلاحون يبصرون معاون الزراعة ومعاون المالية وضابط البوليس يهبطون من القطار بدلا من عربة البوكس .. وحتى موزع البريد أصبح يهبط بكيسه من القطار .. وانقطع نهيق الحمار وتغير الحال فى القرية .. وانتعشت سوقها وزاد الخير فيها ودب فى كل مكان وفى اثناء هذا هبط على السيد حسن ضيفان عزيزان ..
       هبط عليه الدكتور عرفى وزوجته سعاد .. وكان الدكتور عرفى قد نقل إلى أسيوط فجأة ليترك زوجته عند بنت خالتها حتى يعثر على شقة فى أسيوط وينقل إليها عفشه الذى كان قد شحن من القاهرة واستقبلهما السيد حسن وزوجته فاطمة هانم بالسرور ..
       وجلس الضيفان يتحدثان عن متاعب السفر فى خط الصعيد خصوصا فى الليل وفى الشتاء ويبديان سرورهما من المحطة الجديدة .. التى أعفتهما من الانتقال من ديروط بالسيارة ..
       وكانت الشمس قد ارتفعت .. وابتدأت الطيور تغرد .. وكانت سعاد مأخوذة بكل ما حولها من جمال ، وكانت الحقول مزدهرة والبرسيم يغطى الأرض بالسندس ، وكانت ترعة الإبراهيمية قريبة منهم .. والمحطة الجديدة تلمع أبنيتها فى الشمس ..
       وكانت سعاد تزور الريف لأول مرة فى حياتها .. فسرت من كل ما شاهدته .. وكانت ترتدى جونلة رمادية فوقها صديرى من الصوف الأزرق .. وتضع فى قدميها حذاء خفيفا ..
       وكانت فتاة حلوة التقاطيع دقيقة الجسم نحيفة ولها عينان عسليتان وتتحرك برشاقة محببة .. ومنظرها يوحى بأنها مطلقة نفسها على سجيتها .. كانت حركاتها بسيطة وغير متكلفة .. وكانت تسلط عينيها على كل ما حولها فى فضول .. أزعج السيد حسن ..!
       وكانت سعاد تشاهد الريف فى المرات السابقة من نافذة القطار وهى مسافرة إلى الإسكندرية أو راجعة منها .. ولكنها لم تضع قدمها فى المزارع إلا فى هذه المرة .. ومن المحطة الصغيرة إلى البيت .. كانت مأخوذة بكل ما رأته ..
       وكانت ترى الترعة الكبيرة على يسارها .. والحقول مزهرة على جانبى الترعة .. وكانت الأرض مزروعة برسيما .. وبقولا وجزرا .. وكرنبا .. وتبدو الغيطان مستوية على تنسيق رائع .. وكانت الطيور تحلق فوق رأسها كأنها ترحب بها وتحييها ..
       ولما بلغوا الفيلا الأنيقة .. ودخلاها .. لم تطق سعاد أن تبقى فى الداخل .. وخرجت إلى الشرفة حتى لا تحرم نفسها من منظر الطبيعة المزهرة حولها ..
       وجلس الأربعة يصطلون فى الشمس وقدمت لهم فاطمة هانم .. الشاى .. وجلست بجانب سعاد ..
       وأخذت سعاد بمنظر الفيلا وكانت من طابقين وقريبة من السكة الزاعية .. ولها حديقة صغيرة ناضرة بأشجار البرتقال والليمون ، ولما طلعت مع فاطمة هانم .. إلى الطابق العلوى .. استطاعت أن ترى النيل قريبا منها .. والمراكب رائحة وغادية فيه ..
***
       وبعد الغذاء .. أخذ الدكتور عرفى قطار الركاب إلى أسيوط .. وترك زوجته عند قريبتها حتى يؤجر الشقة ويصل العفش ، كانت سعاد وهى جالسة تحس بالرغبة فى أن تنطلق فيما حولها لترى الحقول وترى القرية الصغيرة .. ولكنها كانت تعرف أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك فى الريف فهناك قيود يجب أن تخضع لها ..
       وكانت وهى جالسة فى هذا الهدوء لا تحس بالأسف .. على القاهرة .. وكانت الشمس قد أشعرتها بالدفء والطمأنينة .. ولكن فى الليل .. عندما أضيئت المصابيح البترولية .. ورأت الظلام الذى يخيم على القرية شعرت بالخوف ، وكانت تسمع نباح الكلاب .. فى كل لحظة .. ثم صوت طلقات النار .. وأخافتها هذه الطلقات أولا .. ثم ما لبثت أن ألفتها ..
***
       واستيقظت مبكرة وشربت الشاى وأفطرت مع فاطمة هانم وأدركت لما وجدتها وحدها أن زوجها قد خرج إلى عمله .. ثم رأته قادما بعد ساعة من بعيد وكان يتقى بعينيه الشمس وهو يقترب .. وكان يبدو لها أكبر سنا مما شاهدته فى القاهرة فى الشهر الفائت ..
       ودخل البيت .. وكانت زوجته مشغولة مع الخدم كعادتها فوجد سعاد تقلب فى مجلة .. وهى جالسة فى البهو .. فحياها مبتسما وجلس .. وأخرج سيجارة .. فأشعلها فقالت برقة :
-      أعطنى سيجارة .. فرغت علبة سجائرى..
-      آسف .. لم أكن أعرف .. أنك تدخنين..
-      أننى أدخن قبل أن أتزوج ..
وابتسم ولم يعقب ..
وسألته .. وهى تنفث الدخان :
-      هل أنت راض هنا عن حياتك فى الريف ..؟
-      بالطبع .. وإلا ما عشت كل هذه السنين ..
-      ولكن يبدو .. أن فاطمة هانم غير راضية ..!
-      أعرف هذا .. ولكنها رضيت بحكم الواقع ..
-      ولكن ألا تشعر بالملل من هذه الحياة .. الرتيبة ..؟
-      بالطبع .. كنت أشعر من قبل ولكنى لم أعد أشعر الآن تغيرت طباعى كلها ..
-      كيف يحدث هذا ..؟
- هل ترين هذا الثور .. الذى يعمل هناك .. انه يشعر بالتعب .. والملل .. وهو يجر المحراث .. هذا طبيعى .. ولكنه عندما يطلق ويرفع عنه هذا الحمل يعود ويحن إليه إنه يستلذ هذه الحياة .. ويشعر بأنها لازمة لوجوده .. وهكذا أصبحت أنا ..!
- ولم تأسف على شيء فى القاهرة ..؟
- أبدا .. ولم يكن لى الخيار كما تعلمين .. كان لابد من الانتقال إلى الريف بعد وفاة والدى وإلا ضعنا وأغرقتنا الديون .. ولم يكن أخى عبد الفتاح يستطيع أن يواجه هذا الأمر بالشجاعة التى يتطلبها الموقف فواجهته أنا ..
- ونجحت ..؟
- أعتقد هذا .. إذا أخذنا الأمور بمظهرها الخارجى ..
- ولكن فاطمة هانم تبدو لى غير سعيدة .. وشعرت بهذا من أول وهلة ..
- أنها طبعا لم تكن تحب الريف .. وأعتقد أنها لا تزال تكرهه .. ولقد جاءت عن غير رغبة .. ولكنها لم تكن تستطيع أن تقاوم رغبتى فى الانتقال .. جاءت غاضبة ثم رضيت بالأمر الواقع ، وهذا هو الجانب المؤسف للمسألة ..
ـ ولماذا .. تعذبها لماذا لا تسكن فى المنيا .. أو فى أسيوط مثلا وتكون قريبا من عملك ومن أطيانك ..؟
-      إننى لا أستطيع أن أفعل هذا ..
-      لماذا ..؟
- لأنى إذا فعلته ستموت قريتى ويخيم عليها الظلام كمعظم القرى التى ترينها فى المنطقة .. وإلى جانب هذا فاننى لا أستطيع أن أعيش بعيدا عن الفلاحين لأنى أصبحت أحبهم وأحب بساطتهم ولم يعد لى عيش فى المدينة ..
***
       وابتسمت سعاد .. وكانت تراه على حق وتحب الريف مثله .. ولكنه على أى حال ظلم زوجته وأسفت لأنهما منذ تزوجا لم يرزقا بأطفال .. وكانت ترى أن هذا هو الذى حول اهتمامه إلى الفلاحين ..
       وقالت وهى تحدق من بعيد فى القرية وما حولها :
-      وهل أنت سعيد بعد كل الذى فعلته لهؤلاء الفلاحين ..؟
- بالطبع .. انظرى حولك ، تجدين مستشفى ومدرسة ومحطة سكة حديد وطرقا زراعية تسير عليها السيارات ومحاريث نارية ومياها تتدفق من الصنابير .. بالطبع كل هذا يسعد الفلاح ويسعدنى .. وأنا أحاول أن أعلمه التعاون بطريقة عملية سهلة ..
- ولكنى طول الليلة الماضية وأنا أسمع طلقات النيران ..
- إن هذا سينتهى ..
 - متى ..؟
- بعد عشر سنوات .. بعد عشرين سنة .. ولكنه سينتهى حتما على أى حال ..
وكانت تراه رجلا هادئا جدا وقويا جدا ، كان واثقا من نفسه ومما سيحدث فى الغد ، ويسعد كل زوجة ..
وكانت سعاد تحب الريف مثله وتتمنى لو كانت زوجته بدل فاطمة هانم التى أتعبته إلى حد ما .. وقد تكون أشقته .. وأسفت سعاد لأن الحياة لا تعطينا كل أمانينا ، أو حتى بعض أمانينا .. أسفت لأن الحياة تجعلنا نلف وندور حول الهدف وقد لا نبلغه أبدا ، نعيش فى دوامة لنتعذب .. أسفت لأن الرجل الناجح فى عمله بينه وبين زوجته هوة .. لا يستطيع أن يجتازها ..
***
       وجاءه أحد الخدم يهمس فى أذنه بشيء ، فخرج سريعا ، وبعد قليل سمعت سعاد صوته وهى جالسة فى المدخل .. كانت تحب ألا تفوتها كلمة من كلماته ، سمعته يتحدث إلى الفلاحين فى المندرة فى هدوء وبصوت قوى .. وفى مدة ساعة قصده أكثر من عشرة من الفلاحين رجالا ونساء وحل مشاكلهن سريعا .. وعجبت لسرعته وقوته فى حل الأمور .. كانوا يستمعون إلى كلماته ولا يعارضونها .. ويقبلون حكمه مهما كان شديدا عليهم ..
       وفى عصر اليوم نفسه عاد زوج سعاد من أسيوط وحدثها بأنه وجد الشقة وربما وصل العفش غدا وطلب أن تعود معه إلى أسيوط فى نفس الليلة ، لأنه لا توجد قطارات تقف على المحطة فى بكرة الصباح .. ولا يجب أن يتأخر عن عمله ، ولما سمعت فاطمة هانم قوله .. رجته أن يبقى سعاد عندها يومين أو ثلاثة إلى أن يصل العفش فعلا .. وقبل الزوج واضطر أن يرجع إلى أسيوط وحده .. وأبدت سعاد رغبتها فى أن تمشى مع زوجها إلى المحطة ، فخرج السيد حسن معهما ورأت الفلاحين وهم يحيون  حسن على جانبى الطريق ويقفون له كلما مر عليهم ..
       وركب زوجها قطار الركاب وسافر ، ورأت المحطة الصغيرة وقد غرسوا حولها وفى فنائها الأشجار الصغيرة .. وغرفة الناظر وهى مضيئة ونظيفة والخفير بمعطفه الداكن ولبدته الحمراء يذرع الرصيف فى خطى ثابتة ..
***
       وعادت سعاد مع حسن إلى بيته .. وسارا متمهلين فى طريق منحدر .. وعلى جانبيه العشب وكان حسن على قيد ذراع واحدة منها ، وأحست بالفارق بينه وبين زوجها .. أن حسن يشعرها بالأمان وبالقوة .. وبأنه ليس فى حاجة إلى رعاية من أحد .. أما زوجها فهو بعكس ذلك كله ، وكان يمر برأسها فى هذه اللحظة خاطر عذبها تمنت أن يموت زوجها وتموت فاطمة هانم ، لتتزوج الرجل الذى خفق له قلبها ، وفى تلك اللحظة مرت رصاصة من فوق رأسيهما وجفلت والتصقت بالرجل .. وقال لها بصوت هادئ :
-      لا تخافى من شيء ..
ولكن وجهه كان يعبر عن الغضب الشديد لما حدث ، وكان يعرف أن الرصاصة خرجت لإرهابه ، وأنه المقصود بها فى هذه اللحظة لاحراجه أمام ضيوفه ..
***
وفى الصباح رأت سعاد هرجا فى البيت .. وسمعت من فاطمة هانم أن الخفير عواد أطلقوا عليه النار فى الليل ونقل فى حالة خطرة إلى المستشفى .. وأن حسن ذهب إلى المستشفى وهو فى حالة شديدة من الغضب ..
ودخل حسن البيت بعد الظهر صامتا .. فجرت إليه زوجته وفى أثرها سعاد وقص عليهما ما حدث .. كان غاضبا ..
ولكنه كان رغم غضبه رقيقا لطيفا مع سعاد .. وأخذ يسأل زوجته لماذا لم يتناولا الغداء .. ولماذا تنتظرانه ..؟
***
وفى الليل أطلت سعاد على المحطة من غرفتها العلوية فوجدتها مظلمة ، وكان الناظر قد خشى على حياته بعد إصابة الخفير ..
ونامت سعاد .. وصحت على صوت طلقات شديدة اهتز لها الجو ..
ولما تحركت إلى النافذة وجدت النار تنطلق من ناحية المحطة .. وجرت إلى فاطمة هانم فوجدتها واقفة على الباب تنظر فى الظلام وبجانبها الخادمة ..
وسألتها عن زوجها حسن :
فقالت لها فاطمة هانم :
-      أنه لبس العباءة وخرج ..
وأشارت إلى المحطة ..
وكانت سعاد تود لو تجرى فى اتجاه المحطة ، ولكن فاطمة هانم منعتها من التفكير فى مثل هذه الحركة المجنونة فى ليل الريف وظلت سعاد واقفة فى مكانها شاردة تحبس عبراتها وقلبها يحدثها بما حدث ، ثم وجدت أنها لا تستطيع أن تبقى فى مكانها هكذا ، وخشيت أن تفضحها دموعها .. وأحست برغبتها فى أن تنفرد بنفسها .. فصعدت إلى غرفتها العلوية .. والصقت خدها بزجاج النافذة ..
وبعد دقائق مرت كأنها دهر .. رأت حسن مقبلا من بعيد مرتديا العباءة وبيده البندقية ..
 ولم تره فى هذا الزى البلدى من قبل أبدا .. كما لم تره وبيده السلاح أبدا ..
كان يمشى على مهل ، ولعله جرح .. ولكن وجهه كان ينطق بالانتصار ..
وألصقت سعاد خدها بالزجاج أكثر واكثر وشعرت بالفرح يهزها ..
ورأت غرفة الناظر قد أضاءت فجأة وعادت الحياة إلى المحطة ..
وكان عامل البلوك قد فتح السكة وحرك السيمافور للقطار القادم ..
=========================
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1191 بتاريخ 22/1/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
=========================












الهارب

       دخل فوزى بيت صاحبه فى الليل .. وكان قد نزل فى محطة سيدى جابر .. ليبتعد عن أنظار من يراقبونه فى محطة الإسكندرية .. وركب الترام إلى الشاطبى وسلك طرقا ملتوية إلى بيت عبد المعين .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة ليلا .. والجهد الذى بذله فى اليومين السابقين فى التخفى قد أتعب بدنه وأرهق أعصابه ورغم هذا فإنه لما دخل الشقة وتمدد على الفراش .. لم ينم .. وظل متيقظ الحواس وإن أغمض عينيه .. وكان قد عانى كثيرا من الأخبار المفزعة .. ومن مطاردة البوليس له .. ولكنه أفلت منهم جميعا .. وكان يعرف أنهم كانوا يكمنون له فى محطة القاهرة .. ويراقبون الداخل والخارج من المحطة ومنهم من دخل معه القطار .. ولكنه نجا من قبضتهم .. وساعده تغيير ملابسه والمنظار الذى لبسه على الهرب ..
       وعندما نزل فى محطة سيدى جابر كان يقدر وجودهم هناك .. ولكنه مشى ثابت الخطى حتى خرج من باب المحطة .. ولم يكن معه أى شيء يحمله لا حقيبة ولا سواها .. وقد ساعده هذا على الأفلات ..
       وعندما وضع رأسه على الوسادة .. كان يقدر أنه سيغفى .. ولكنه تيقظ وفتح عينيه فى الظلام ..
       وكان المنزل على البحر .. وموج الشتاء يلطم جدار الكورنيش والرياح العاصفة تصفر فى الخارج .. وقد سره هياج الطبيعة وهياج البحر .. لأن السكون سيجعله متنبها إلى الباب .. ولكن رغم العواصف الهوج فأعصابه مافتئت تصور له بإصرار عجيب أنه يسمع بين الفينة والفينة طرقة ..
       أدرك أخيرا حمق تصوره هذا وتلف أعصابه .. لأنه لا يوجد مخلوق على الأرض يمكن أن يعرف المكان الذى تخفى فيه الآن .. ولو كان يملك البللورة السحرية ..
     ولكن قلقه .. وخوفه الشديد .. جعلاه يتصور الموت بعد كل دقيقة .. وأخذ يحتمى بالظلام حتى أنه دخل الشقة وسار بين جدرانها دون أن يفتح النور وأخذ يتلمس طريقه فى الظلام إلى غرفة النوم ..
***
       وكان قد أخذ المفتاح من صديقه عبد المعين .. عندما أدرك بوضوح أن البوليس يطارده بعنف ليقبض عليه بعد حادث حريق القاهرة ... كواحد من المتظاهرين الذين اشتركوا فى إشعال النيران .. وكان يرتعش من مجرد تصور التهمة ولعن الحظ العاثر الذى جعل اسمه هناك فى سجلاتهم .. وجعل اسمه يقفز إلى رؤسهم بعد كل حادث وكل تظاهرة .. يصحونه من نومه العميق ليضعوه فى السجن .. مع أنه لم يشترك فى طول حياته فى أى عمل من أعمال التخريب ولا حتى مجرد تكسير فانوس ..!
       وتذكر السبب الذى من أجله وحده عرفوه ووضعوه فى القائمة ..!
       خرج على رأس مظاهرة من المدرسة الخديوية منذ سنوات وقبض عليه البوليس .. وذهبوا به إلى المحافظة .. ثم أطلقوا سراحه ومن وقتها وهم يجرونه بعد كل حادث .. ربطوه فى الخيط .. الذى يشدونه كلما حلى لهم ..
***
       وكان فى كل مرة يتلقى أمر القبض عليه بثبات وأعصاب من حديد .. ولكنه فى هذه المرة ارتعش ومات من الرعب .. فإن التهمة ضخمة ومن السهل .. أن يضعوا له أدلة الاتهام ويعدموه ..!
       وقرر أن يهرب مهما كانت الأحوال لأن القبض عليه معناه شنقه ..! وبمجرد علمه بأنهم سألوا عنه فى البيت أسرع فى الهرب وركب القطار ..
       وأعطاه عبد المعين مفتاح بيته فى الشاطبى ووصف له مكانه بدقة .. ووجد فوزى أنه خير مكان للتخفى لأن الحى كبير ومزدحم بالسكان ولأن عبد المعين غير مشبوه .. وبيته غير مراقب .. ومع أنه دخل البيت فى أمان .. وأغلق وراءه الباب ولكن غريزة الخوف كانت لا تزال تسيطر عليه بشكل مدمر .. وحمد الله لأنه صعد السلالم .. ولم يجد البواب .. ولو وجده ربما اعترضه حتى وإن كان يحمل المفتاح .. لأنه لم يشاهده من قبل مع عبد المعين ..
       وظل فى مكانه متخشب على الفراش .. ثم تحرك فى الغرفة .. وقاس طولها وعرضها بنظره .. ولما وجد نفسه قادرا على أن يرى فى الظلام خرج منها ليشاهد الشقة كلها .. وكانت عبارة عن ثلاث غرف .. منها غرفة تطل على البحر مباشرة والأخريان فى الداخل ..
       وعرف من المنور أنه فى الدور الأخير من المنزل وأن هناك شقة أخرى فى نفس الدور ..
       وأحس بالعطش .. فشرب من الحنفية .. وغسل وجهه ويديه .. وانتشى قليلا وشعر بقيمة الحياة .. وقرر أن يظل متخفيا مهما كانت الأحوال ووضع رأسه على المخدة وفى ذهنه هذا القرار ..
       ولم ينم .. وسمع حركة .. خيل إليه .. أنها فى البيت .. ثم أدرك بعد أن تسمع أنها فى الشقة المجاورة .. وسمع غناء فى الغرفة الملاصقة لغرفته نفذ الصوت من وراء الحائط ضعيفا ولكنه مؤثرا .. فوضع أذنه على الجدار فسمع صوتا شجيا وهزه الطرب .. وظل ملصقا رأسه بالحائط وهو يشعر بنشوة عارمة ، ثم أخذت ريح الشتاء تعوى فى الخارج .. فلم يعد يسمع الصوت ..
       وظل حسه متنبها للباب والسلم حتى اقترب نور الفجر .. فأدركه الإعياء ونام فى مكانه دون أن يخلع ملابسه ..
***
       وفتح عينيه وهو متصور أنه فى بيته فى القاهرة .. ثم استفاق مذعورا وتذكر كل شيء فوثب إلى الباب الخارجى .. وكان يتصور أنه نسيه ليلة أمس مفتوحا .. فلما وجده مغلقا .. اطمأن وأخذ يدور بعينيه على ضوء الصباح فى جدران الشقة وأثاثها .. ثم دفعه الجوع إلى المطبخ وبحث عن شيء يأكله ويسد به رمقه .. فلم يجد .. حتى صفيحة الزبالة .. وجدها مقلوبة ..
       وأنب نفسه .. لأنه نسى أن يحمل معه الطعام وهو صاعد إلى بيت عبد المعين ..
    وفكر ماذا يفعل .. بعد أن أحس ببطنه تصرخ ..؟ وكان نزوله إلى الشارع مخاطرة لا يدرى عواقبها .. ونظر من خصاص النافذة إلى طريق الكورنيش المقفر فى الصباح المقرور وإلى ندى الفجر وقد جعل أرض الشارع تلمع .. وكانت شابورة الصباح مخيمة .. وموج الشتاء يتطاير رشاشه على الرصيف ..
       وظل فى النافذة حتى رأى خيوط الشمس تلهب ضباب الصباح وتذيبه ثم رأى بائع الصحف يجرى زاعقا فى الشارع ..
       وكان يعرف أن الصحف خرجت بعناوين مثيرة .. وأن حريق القاهرة لا يزال هو الخبر الأول .. وكان لا يحب أن يراها ويرى عناوينها السوداء .. لأنه يود أن يقطع صلته بالعالم الخارجى .. وينسى السياسة .. فقد كرهها بسبب ما جرته عليه من ويلات ..
       وعندما ارتفع الضحى كانت مشكلته الرئيسية هى الطعام .. وكل ما عداها قد رسب فى القاع .. فقد دخل فى يومه الثالث .. وهو يعيش على الماء فقط .. وأحس بأنه على استعداد لأن يسلم نفسه فى سبيل وجبة ساخنة .. فى هذا الشتاء المقرور وأن الجوع القاتل حصر آماله كلها فى كسرة خبز .. وما عداها باطل الأباطيل .. وسراب لماع ،
     وألفى نفسه يتحرك إلى الباب الخارجى ويفتحه بحذر .. فتحه .. ترى منها العين .. ولا يطل الرأس .. ورأى بسطة السلم الدائرة .. وباب الشقة القابلة ولم يجد بابا سواه ..
       وأرهف سمعه .. ومد بصره .. فلم ير أو يسمع حركة على السلم .. كان السكون شاملا ..
       وخيل إليه أن البيت كله مهجور وأن سكانه من المصيفين الذين يحلون فى مواسم الصيف ويرحلون من بداية الخريف .. ولكنه شاهد على الباب المقابل حركة الساكن وآثاره فقد كانت المقابض تلمع والخشب مصقولا ..
       وسمع بعد أن رد الباب ودخل حركة شديدة على السلم وجلبة وصوت أكثر من شخص واحد .. ففزع ووقف وراء الباب متحفزا وعضلات وجهه متصلبة .. وعيناه تقدحان .. ثم وجد أنه لا يحمل ما يدافع به عن نفسه إذا هوجم .. فدخل وأخذ يبحث عن شيء يحمله فى يده ويضرب به الداخل .. فلم يجد غير سكين قديمة ملقاه فى المطبخ فحملها ووقف خلف الباب مترصدا .. ولكن الصوت انقطع عند الدور الثالث ..
***
       وبدأ فوزى يشعر بالفراغ .. فتحرك فى الشقة .. يستعرض ما فيها .. ووجد الدولاب مفتوحا .. ففتحه .. وأخذ يعبث فى الأدراج .. وجد ملابس عبد المعين القديمة .. موضوعة فى غير نظام .. وآثار الصراصير .. وصور لأشخاص لا يعرفهم بينهم صورة لفتاة قريبة الشبه من عبد المعين .. فتمعن فيها طويلا .. وشعر بارتياح وهو ينظر إليها ..
       وأحس بعد ساعة بالسأم .. وبالجوع ينهش أحشاءه .. وكان يود أن يفتح النوافذ ويخرج إلى الشرفة .. ويتسلى بمنظر البحر والناس فى الشارع وحركة السيارات فى الطريق .. ولكنه لم يستطع ..
       وتخفف من ملابسه وخلع حذاءه .. ووجد أن الوقوف يؤذيه وهو جائع فتمدد .. واسترخى .. وتذكر وهو فى هذا الوضع غاندى عندما كان يصوم ويشتغل بالمغزل .. وود لو يجد شيئا يحركه بيده حركة رتيبة تشغله عن التفكير المعذب ..
***
       وظل يعانى الآلام .. وهو قابع فى مكانه حتى أحس بدخول الليل .. فشعر ببعض الراحة .. لأن الظلام سيلفه ويطويه عن المطاردين .. ولكنه بعد الساعة التاسعة .. أحس بأنه سيموت حتما من الجوع .. وزاغ بصره .. وهبطت ضربات قلبه فلبس بدلته .. وقرر أن ينزل إلى الشارع ويشترى ما يسد رمقه مهما كانت الظروف ..
       ولما فتح باب الشقة تردد ورأى أنها مخاطرة لا تسلم عواقبها .. فاستدار ليدخل .. ولكنه لمح باب الشقة المقابلة مفتوحا .. فتحرك إليه .. وركز بصره وتسمع .. فرأى النور فى الداخل وبعض الطعام موضوع على السفرة فى الصالة .. ورأى كوبا ممتلئا باللبن .. وتقدم ورفعه فى يده .. وهنا سمع أنينا وصوت امرأة كأنها تبكى .. فأعاد الكوب إلى المائدة ..
       ولم تطاوعه طبيعة الخير التى فيه على أن يقف موقفا سلبيا من هذا الأنين .. فتقدم إلى الغرفة التى يخرج منها الصوت ...
       ووجد سيدة طريحة الفراش .. لا تزيد عن الثلاثين من عمرها .. وحيدة .. ونظرت إليه أول ما وقع نظرها عليه .. بارتياع ثم لانت ملامحها ..
       وقال بصوت هادئ :
ـ عاوزه .. حاجة .. يا هانم ..
ـ لا .. مرسى .. حضرتك ..
    ـ أنا جارك .. قريب عبد المعين اللى ساكن قدامك ..
ـ عرفت قبل ما تقول ..
ـ حضرتك عاوزه حاجة ..
ـ أبدا .. بس من فضلك إنده على البواب .. من امبارح مشفتهوش ..
       ـ حضرتك عاوزه حاجة من بره .. البواب مش موجود ..
ـ أتعبك .. علشان إيه .. خلاص .. مفيش حاجة ..!!
ـ اللى عاوزاه أجيبه حالا ..
ـ أبدا مفيش حاجة ..
    ورأى وجهها يصفر أكثر .. وأكثر .. والكلمات تموت على شفتيها ..
    ـ حضرتك .. سيبتى الباب البرانى مفتوح ..!!
ـ لازم نسيته .. كنت بنده على البواب .. وأخذتنى الدوخة .. فنسيته .. كنت عاوزاه يجيبلى الدكتور .. البنت روحت عند أمها فى محرم بك ومرجعتش .. وسمير .. سافر مصر من أسبوع من يوم الحريقة ولا أسمع عنه خبرا ..
     ورأى بياض عينيها وارتعاش فمها ..
ـ سأجى بالدكتور حالا...
ـ وعلشان إيه التعب ..!؟
ـ ضرورى حالا ..
     وخرج ..
       ونزل إلى الشارع .. وعلى أول الطريق أحس بأنه خاطر بحريته وربما بحياته .. فى سبيل سيدة لا يعرفها ولا تربطه بها أية صلة ..
       ولكنه بعد ربع ساعة .. مضى فى الطريق .. ودخل أول صيدلية صادفها ليستدل منها على طبيب ..
***
       وجاء بالطبيب .. وكشف على المريضة وأعطاها حقنة مسعفة وكتب لها تذكرة الدواء وعندما خرج فوزى ليودعه على بسطة السلم رأى شخصا يعرفه جيدا يقف على الباب .. فى انتظاره ..
       وتقلص وجه فوزى وارتعد ..
       وقال للرجل بهدوء :
        ـ سأنزل معك حالا .. ولكن هناك سيدة مريضة فى الداخل وحالتها خطيرة .. وإذا أبديت أية حركة غير عادية .. سنموت معا ..
ـ معك .. مدفع ..؟
       ـ معى قلبى .. وهو لا يزال يدق ..
ـ انزل ..
    وهبط الدرجات فى سكون ..
    وسمع وهو نازل صوت السيدة تناديه ..
    فرفع وجهه إلى فوق .. لحظات .. ثم استأنف سيره ..
    وكانت ملامحه ساكنة .. ووجهه هادئا يعبر عن الرضا التام ..


============================ 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 287 بتاريخ 24/6/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
========================= 



العملاق

استدعى الدكتور مدحت من بيته فى ساعة متأخرة من الليل لإنقاذ سيدة فى حالة وضع متعسر .. وأسرع بسيارته فاجتاز شارع الخليفة المأمون .. وقبل أن يبلغ منزل السيدة بضاحية القبة .. صدم شخصا كان يعبر الشارع وألقاه بجانب الرصيف .. وكان الظلام كثيفا فلم يتبين ما حدث بوضوح ، وشعر باضطراب شديد .. حتى تخشبت يداه على عجلة القيادة .. ولكن وقوع غارة فى تلك اللحظة ودوى المدافع نبهه إلى وعيه .. فعاد يركز أعصابه على الطريق وقد شعر ببعض الأمان للظلام الشامل ولخلو الشارع من المارة .. ومن كل أثر لإنسان ..
وتمهل فى سيره وعاد ذهنه يلف كالدوامة .. ثم ألفى نفسه يسرع كأن هناك من يطارده .. ولكنه لم يبعد كثيرا .. فعند تقاطع المرور فى كوبرى القبة وجد نفسه يدور بالسيارة فى الميدان الصغير ويعود من حيث أتى .. وكانت رأسه مشحونة بشتى الفكر وعيناه مركزة على شيء يبحث عنه فى جوف الظلام ويعرف مكانه جيدا ولما اقترب منه .. ترك السيارة جانبا .. وتقدم ماشيا .. وهو ينظر إلى الأرض حتى وجد رجلا مكوما كالشوال بجانب الطريق .. ودقق النظر فيه .. يتبين ملامحه تحت نور السماء وضوء القذائف فألفاه عجوزا .. أشيب .. يرتدى جلابية فوقها معطف قديم .. وقد طار غطاء رأسه من الصدمة .. ووقف الدكتور يتلفت كأنه يبحث عن إنسان يعينه على نقل الرجل المصاب إلى السيارة .. فلم يجد أحدا .. فأحس بالراحة .. فقد كان فى أعماقه يتمنى هذا ، وحرك كتف الرجل ليريحه فى رقدته .. وفى تلك اللحظة نظر إلى عينيه فرأى البياض الأخرس .. ففلتت من فم الطبيب صرخة مكتومة .. وترك الرجل وجرى إلى سيارته وانطلق بها كالصاروخ ..
***
وبلغ بيت السيدة .. وكأنه يتحرك بلولب ووجد حالتها خطيرة فنقلها إلى المستشفى وشغل بها حتى خرج المولود الجديد إلى النور ، ورجع الطبيب إلى بيته فوجد زوجته ساهرة تنتظر أوبته .. ورأته أسود الوجه واجما .. فحسبت أن السيدة التى ذهب إليها .. ماتت فى المخاض أو مات وليدها فتأثرت من حاله ..
وكان من عادته أن يسأل زوجته وهو عائد من الخارج هذا السؤال :  
ـ ألم يطلبنى أحد فى التليفون ..؟
ولكن فى هذه المرة .. لم يسأل ولم يحرك شفتيه .. ودخل صامتا ..
فاضطرت أن تقول له :
   ـ عبده .. سأل عنك مرتين فى التليفون ويريد أن تكلمه ضرورى ..
   ـ إن سأل مرة ثانية .. قولى له .. إنى لم أعد .. فهناك ألف دكتور غيرى ..
   ـ يمكن يريدك لشيء آخر ..
   ـ أبدا لا شيء سوى هذا القرف .. قولى له أنى غير موجود ..
قال هذا وهو ثائر .. فعجبت لحاله ..
وسألته :
    ـ مالك يا مدحت .. متغير ..؟
 ـ تعبان .. أريد أن أستريح من كل شىء .. من المرضى .. والمستشفيات والولادة .. ومن البيت والعيادة .. من كل شيء ..
    ـ فنظرت إليه صامتة .. وأدركت أن شيئا حدث فى بيت السيدة التى خرج لينقذها وأنه وصل بعد فوات الأوان ..
وسأل وهو مطرق :
    ـ زكية .. نامت ..؟
    ـ أيوه ..!!
فتحرك إلى البوفيه .. وأخرج زجاجة .. صغيرة ..
ونظرت إليه زوجته غضبى فمنذ شهور حلف لها بأن لا يذوق الخمر .. وهاهو قد عاد إليها ..
وقال لها وهو يرفع الكأس فى يده :
   ـ هذا .. أخف .. من المورفين ..
   ـ ولماذا المورفين ..؟
   ـ لأننى أود أن أغيب عن الوجود ..
   ـ ماذا جرى .. لماذا .. كل هذه المرارة ..؟
   ـ لا شيء ..
ورأت وجهه يفور بالدم .. ورأته يغالب الدمع .. ويحبس شيئا فظيعا فى صدره ..
   ـ ماذا جرى يا مدحت ..؟
   ـ قد .. قتلت نفسا ..
   ـ إن هذا يحدث لكل طبيب .. يقوم بنفس عملك .. مادمت تريد أن تنفذ الأم ..
ـ إلى أين تذهبين قتلت شخصا بالعربة .. وأنا أجرى فى الظلام ..
فأبيض وجهها ..
وقال وهو يدير الكأس البلورية فى يده وعيناه تقطر بالدم ..
ـ لقد تسلط علىَّ الشيطان .. وسط الظلام .. فبدلا من أن أحمل الرجل إلى المستشفى تركته هناك وهربت .. ليموت .. ومن الذى يفعل هذا .. طبيب ..!! ولم أذهب حتى إلى مركز البوليس ..
وكانت تود أن تقول له ..
ـ اذهب الآن ..
ولكن نظرت إليه وردت لسانها ..
واستطرد وهو يفرغ الكأس فى جوفه ..
ـ وحدثت نفسى ولماذا أذهب .. وخلفى مئات من السيارات وما من إنسان رآنى فى الظلام ..
وصمت .. ثم استطرد ما من إنسان ..
   ولكن الآن وأنا فى البيت .. أدركت شناعة عملى وأدركت أنه دم إنسان ولابد أن أذهب وأراه .. أعرف الحقيقة .. إن رأسى يتمزق .. وإذا لم أذهب سأجن ..
ونهض .. فقالت له .. سأذهب معك ..
وجلست بجانبه فى السيارة صامتة .. وقاد السيارة فى الظلام .. إلى مكان الحادث ولكنه .. لم يجد الرجل فى مكانه ..
وقال :
ـ لقد أخذوه ..
    ـ أجل ..
    ـ سأذهب إلى مركز البوليس وأقص ما حدث ..
   ـ اذهب .. فى الصباح إنك الآن محطم متعب ..
ـ لك حق .. فأنا الآن لا أستطيع أن أنطق لقد شل لسانى .. من مجرد التفكير فى أنى قتلت إنسانا .. خطأ ومن غير قصد .. ولا أدرى كيف يثير هؤلاء الحروب .. ويقتلون روح البشر .. ماذا يقولون لجنودهم .. وهم يغيرون الآن .. علينا .. ماذا يقولون لهم .. ليدمروا البيوت .. ويقتلوا الأطفال ماذا يقولون لهم ..؟
ـ أنهم يخدعونهم بالطبع .. ويصورون لهم الأحلام فى الشرق .. يحلمون بليالى هارون الرشيد ولكنهم سيموتون .. وسيصبحون جيفا .. وتأكل منهم النسور ..
***
ولما دخل البيت .. نظر إلى زوجته فوجدها ترتدى رداء خفيفا ..
فسأل :
   ـ خرجت هكذا .. فى البرد ..
وعجبت لرقة حديثه ..
ونظر إليها .. ثم ضمها إلى صدره .. وأخذ يغمر جيدها وشفتيها بالقبل .. وجذبها بجواره على الأريكة .. وهو يضمها بعنف .. فتركته فى نشوته وجده ثم أشفقت عليه .. وطوقت جسمه بذراعيها .. كأنها تحميه .. من كل ما يأتى به القدر ..
***
ولما فتحت عينيها .. وجدته متيقظا .. فأدركت أنه لم ينم ولكن وجهه كان ساكنا .. وليس فيه القلق الذى كان يشيخه فى الليل ..
وقال لها فى صوت هادئ :
    ـ سأذهب وأرى ما حدث ..
وقالت :
    ـ اذهب ..
كانت تعرف أن هذا سيخلصه من العذاب ..!!
ليس أسلم من مواجهة النور .. مواجهة الحقيقة ... ودفنها فى التراب لا يجدى أبدا ..
***
خرج وركب السيارة .. وودعته حتى من النافذة ..
وكانت تنتظر أن يحدثها فى التليفون .. ويطمئنها فلم يفعل .. فساورتها الهواجس وقلقت ..
وذهب أطفالها الثلاثة إلى منزل خالتهم فى نفس الحى .. وكان الشارع بعيدا عن المرور .. ولكنها قلقت عليهم .. وتصورت لأول مرة فى حياتها أن سيارة قتلت واحدا منهم ..
وتحت هذا الخاطر المدمر .. وقفت فى الشباك ترقب المارة .. ثم نزلت تجرى وجاءت بالأطفال إلى البيت .. وقطعت عليهم فسحتهم .. وعجبت أختها لهذا التصرف منها .. ولم تعرف السبب ..
واقتربت ساعة الغداء .. ولم يعد الزوج الطبيب .. فتصورت أنهم قبضوا عليه .. وحزنت لأنها وافقته على الذهاب وأخذت تبكى ..
***
وفى السـاعة الثالثة مساء دخل .. فتعلقت بعنقه .. وكان وجهه هادئا وذهب عنه القلق ..
وسألته:
    ـ لماذا تأخرت ..؟
    ـ كنا نبحث عن الرجل ..
    ـ ووجدتموه ..؟
 ـ أبدا .. لا بين الأحياء .. ولا بين الموتى .. تصورى أنه لم تبلغ حادثة واحدة فى الليلة الماضية .. للقسم أو للمحافظة .. ولم ينقل أى مصاب إلى المستشفى ..
    ـ ربما تكون قد تصورت الحادث .. مجرد خيال فى الظلام ..
وابتسم الطبيب لزوجته ..
ـ أنت تقولين نفس ما قاله الضابط .. ولكننى رأيت المصاب .. ونظرت إلى وجهه وعينيه ..
    ـ انس ما حدث .. أنها مصائب الظلام والحرب ..
    ـ سأفعل هذا ..
وعانقته ..
***
ومر أسبوع وكان الدكتور مدحت يود حقا أن ينسى ما حدث فى غمار عمله المتصل فى العيادة والمستشفى .. ولكن صورة الرجل .. كما رآه فى الظلام .. كانت تبرز فى مخيلته وتتجسم .. من حين إلى حين .. وكان لا يستطيع دفعها عنه ..
وذات صباح .. مر وهو فى طريقه إلى مستشفاه .. على صديقه الدكتور عنان بمستشفى الدمرداش ليعزيه فى قريب له مات فى معركة بورسعيد ..
وبعد أن عزى الطبيب فى عنبر الجراحة وأخذ طريقه إلى الخارج لمح رجلا .. فى العنبر المجاور .. فوقف على الباب يحدق فيه مبهوتا .. وقد انتفض قلبه ثم دخل واقترب من سريره .. أنه نفس الرجل الذى صدمه بالسيارة وتصور أنه مات ..
وانحنى الطبيب على الرجل الجريح :
    ـ إزى صحتك دلوقت يا عمى الشيخ ..
    ـ كويس يا ابنى الحمد لله .. نمت شوية ..
    ـ حضرتك الدكتور هاشم ..؟
    ـ أيوه ..
يا ابنى عاوز أروح .. كفاية .. أنا مكنتش جاي المستشفى خالص .. قعدت يومين فى البيت .. لكن تألمت .. وحسيت أن فيه حاجة فى ضلوعى .. خفت أحسن تكون حاجة انكسرت .. لكن الحمد لله .. جت سليمة ..
ونظر مدحت إلى أوراق الرجل المعلقة على السرير وسأله :
    ـ وقعت من أين .. يا عمى بشير ..؟
 ـ والله يا ابنى .. الحقيقة .. أنى ما وقعتش .. أنا بس قلت لهم كده .. وأنا داخل .. الحقيقة أن عربية ضربتني بالليل ..
    ـ وليه ما بلغتش عنها ..؟
 ـ كنا يا ابنى فى ساعة الغارة .. وقلت .. العربية اللى تمر دلوقت فى الظلام مسرعة .. لازم تكون عربية مسلحة رايحة الميدان .. يعنى أعطلهم يا ابنى وأشغلهم بحكاية فارغة .. أعطلهم ..؟
    ـ لا .. يا عمى .. خليهم يروحوا الميدان ..
ونظر الطبيب إلى الرجل النحيف الممدد على الفراش .. وشعر بضآلته أمامه وأحس بأن هذا الرجل الصغير يتضخم .. يكبر .. ويكبر .. حتى يبدو عملاقا ..




======================= 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 219 بتاريخ 10/1/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
=======================




فى الجبهة

     استيقظت السيدة روحية مبكرة كعادتها وأخذت تعد طعام الافطار وسمعت وهى تضع الصحاف على المائدة .. أزيز الطائرات ثم صوت القنابل .. وكان ابنها الأكبر عمر يقاتل اليهود فى سيناء .. وابنها الأصغر هشام قد ارتدى ملابسه ليذهب إلى المدرسة .. وابنتها ثريا قد أمسكت بالمنفضة ..
***  
     وكانت الأم كلما سمعت صوت الطائرات المغيرة تشعر بهزة وبقبضة على قلبها .. واشتد ضرب المدافع المضادة حتى تصورت أن الأرض فتحت كل نيرانها .. ثم خيم السكون وجاءت ابنتها تجرى وتصيح فرحة :
     ـ ماما .. أسقطوا .. طيارة إنجليزية ..
     وعندما فتحت السيدة روحية الشرفة رأت الناس كخلية النحل ..
     ومرت سيارة .. وكان بها ميكروفون .. يدعو شباب الحرس الوطنى إلى التوجه إلى مكان معين .. ورأت الأم ابنها هشام ينصت إلى الميكروفون .. وقد تحولت سحنته إلى أذنين .. وظهر الدم فى وجهه يتفجر .. وأخذ يروح ويجىء فى البهو كأنه محبوس فى قفص ..
     وسألته والدته :
     ـ مالك .. يا هشام .. أقعد افطر ..
     ـ لا أحس بجوع ..
     وكانت تعرف ما يدور فى نفسه .. فصمتت ولم تلح عليه فى أن يأكل .. فمنذ بدأت معركة القناة وهو يبدى رغبته فى التطوع فى الحرس الوطنى .. وكانت أمه تعارضه ليبقى بجانبها وبجانب أخته ويكفى أخوه الأكبر الذى يقاتل فى الجبهة ولكن هشام كان يعارض ولا يستقر له جنب .. 
***  
     وعاد الميكروفون يردد نفس النداء فأحس هشام بشىء يهزه وينفض جسمه نفضا ووثب بعدها وثبة واحدة وهبط إلى الشارع ..
     ولم تملك الأم نفسها فشعرت بعينها تتندى .. وشعرت بالفراغ .. ولكن صوت ثريا الحلو .. كان يتردد .. سمعتها فى المطبخ تشترى الخضار وتتحدث مع الجيران فى ألفة ومودة فبعد عنها القلق الذى ساورها منذ تركهم هشام ..
***  
     ومر النهار رتيبا إلى الظهر .. ثم دوت صفارة الإنذار .. أغارت طائرات الأعداء .. وأخذت ترسل نيرانها على الأهلين الوادعين ..
     وبصرت بعربات الأطفال عائدة بهم فى هذا الجو الرهيب من المدارس وبالنساء والشيوخ .. يجرون تحت وابل النيران إلى البيوت ..
     وكانت شقتها فى الدور الخامس .. فى حى القلعة .. فبدت المدينة الجبارة تحتها .. بكل جمالها وجبروتها .. بدت المآذن والقباب وبروج الكنائس والعمارات الشاهقة والحدائق والفنادق .. وبدا النيل الخالد .. وعلى جانبيه الأرض الخضراء .. بدت الإنسـانية الوادعة وحضارة قرون ..
     وفكرت من الذى سيدافع عن هذا التراث .. من الذى سيدافع عن هذه الحضارة .. ضد الوحشية والبربرية .. إذا لم يدافع عنها هشام .. أصغر أبنائها .. وشعرت بالفخار ..
     وبعد ربع ساعة سمعت جرس الاسعاف .. ثم علمت أن ابنا صغيرا للجيران قتل فى الغارة .. فهزت الباب بقبضة يدها ..
***  
     وعندما جاء ولدها فى العصر يحمل ملابس الميدان على ظهره .. وأخبرها أنه ذاهب منذ الغد إلى الجبهة عانقته فى نشوة .. وأخذت هى وابنتها تعد له عشاء شهيا وفى الصباح الباكر .. خرج ابنها بملابس الميدان .. وودعته هى وثريا من النافذة وهى تشعر بالفخار والزهو ..
***  
     ومر النهار .. ولاحظت الأم أن ابنتها ثريا ساهمة فتصورت أنها قلقة على هشام .. فأخذت تشغلها بالعمل ..
     ولكن الفتاة كانت تفكر فى شىء آخر .. كانت تفكر بكل قلبها فى
أن تشترك فى المعركة .. كانت تفكر فى عمل ايجابى تدافع به عن وطنها ضد المتوحشين والقراصنة وأخيرا استقر رأيها .. ودخلت على أمها وهى ترتدى الملابس البيضاء .. وعلى رأسها الهلال وبدت أجمل وأنضر ..
     ونظرت إليها الأم وابتسمت ..
***  
     وعندما بدأت الغارة فى الليل .. لم تقف الأم دون عمل .. جمعت حولها الأطفال فى العمارة ونزلت بهم إلى المخبأ .. وأخذت تقص عليهم القصص الممتعة .. وكان الأطفال ينصتون إليها فى سرور ومرح .. حتى نسوا الظلام والخوف ..
     وأحست الأم بأن الجميع يشتركون فى جبهة القتال ..
     وغمرتها السعادة .. ورأت نور النصر الباهر ينبثق رويدا .. رويدا حتى يملأ الآفاق ..




=============================================
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 156 فى 8/11/1956وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================================




الرجال

       كان الإنجليز يطلقون النار من وراء الأسوار .. كانوا متحصنين فى المدرسة الثانوية فى شارع الخزان .. وكان الأهالى يزحفون عليهم بقوة .. وأجلوهم عن كثير من المواقع ..
       انسحبوا من المنتزه ..
       ومن الشارع الرئيس وبقوا فى المدرسة ..
       وكان الأهالى يعرفون أنهم إذا أجلوهم عن الخزان فقد انتهت المعركة ، وكان الإنجليز قد وضعوا خير قواتهم فى هذا المكان .. ونصبوا ثلاث مدافع رشاشة تطلق النار فى كل اتجاه .. وفتحوا الهويس .. وتحصنوا وراء الأحجار ..
       وكان ميدان المعركة قرية " الوليدية " المجاورة للمدرسة ..
       وكان الأهالى يرابطون فيها .. ويطلقون النار بمقدار .. كانوا يعرفون أن المعركة ستطول .. وأنهم فى حاجة إلى الذخيرة والرجال المدربين على القتال ..
       كانوا يقاتلون ببسالة تفوق كل إدراك العقل كانوا يقاتلون بالبنادق الخرطوش وبالهراوات .. والفؤوس .. وبكل ما يجدونه فى البيت والحقل ..
       كانوا يدافعون عن وطنهم المسلوب .. عن أراضيهم التى لوثتها الخنازير .. عن عرضهم وأطفالهم فى البيوت ..
       ومنذ بدأ القتال وهم يمنعون المؤن عن الأعداء ..
       امتنع باعة اللبن والبيض والخضار عن الذهاب إلى المعسكر كل صباح ..
       وقطع المحاربون .. الخط الحديدى .. ورابطو فى النهر وحاصروا المعسكر من الشمال والجنوب ..
       كان الحصار على أتمه .. ولكن الشيء الذى كان يشوه هذا العمل الباهر هو المدافع الرشاشة المصوبة على الهويس .. كان كل من يتقدم لاسكاتها يسقط .. وفكر الرجال الشجعان فى عمل حاسم ..
       اجتمع قواد المعركة فى منزل الشيخ نصار .. وقرروا أن تهاجم فرقة من خيار الرجال المسلحين بأحسن أنواع الأسلحة .. الموقع .. من كل الجبهات .. وأن يتسلل قبل الهجوم خمسة من الفدائيين .. إلى الموقع من الخلف .. يتسلقون السور فى غلس الليل .. وقبل الفجر يعطون إشارة الهجوم بإطلاق أول طلقة ..
***
       وخرج الرجال .. وفى الساعة المحددة .. بدأ القتال واشتد .. لكن لم يسكت مدفع واحد من المدافع الثلاثة .. كانت محصنة تحصينا منيعا .. بالأحجار وأكياس الرمل .. وبعيدة عن مرمى المقاتلين من الثوار ..
       وسقط سبعة من الرجال المهاجمين وحوصر الذين تسللوا من الخلف .. وكادوا أن يبادوا .. وساءت الأحوال عندما علم المصريون أن رشوان وهو قائد من قواد الثوار قتل فى المعركة ..
       وفى الغروب توقف الهجوم ..
***
خرج رجل جريح من المعركة .. ودخل بساتين القرية فى الليل وكان تعبا جائعا فنام فى جدار بستان والبندقية تحته .. وتيقظ على دوى الرصاص فأدرك أن الثوار قد عادوا الى الهجوم ..
وعندما دار بعينيه فى المكان كان الصبح قد تنفس .. وكانت المراكب فى البر الشرقى قد حلت الشراع .. ورأى فيها أطراف البنادق .. والحراب تلمع فى خيوط الشمس ورأى الخيول المسرجة .. وعليها الفرسان تجرى فى اتجاه الريح ..
وسمع قرع الطبول .. وانتصب على قدميه .. فوجد دلوا على حافة بئر وكان يريد أن يشرب ويتوضأ .. وشعر بالنشاط بعد أن جرى الماء على جسمه .. وغسل الجرح وصلى الصبح ..
ولما رفع وجهه إلى السماء رأى نخلة عالية فى فناء البيت المجاور تشرف على الموقعة فنظر إليها طويلا ..
ثم تناول بندقيته .. ودفع باب البيت ودخل .. ولمحته صاحبة البيت وهو داخل فظنته يطلب طعاما وجرت إلى الداخل تصنع له فطيرة وعندما رجعت بها لم تجده ..
غير الثوار طريقة الهجوم وتقدموا نحو " الهويس " ..
وكان بعضهم قد تسلل وأصبح قريبا من الموقع ، واشتد إطلاق النار .. وحمى القتال ..
وتصور المهاجمون .. أن ساعة النصر قد قربت .. فازداد حماسهم ولكنهم فوجئوا بداورية إنجليزية تطوق الرجال الذين تقدموا الصفوف .. وتحاصرهم .. فاضطربت .. وشعر الثوار بالهزيمة فتراجعوا ..
وفى تلك اللحظة الحاسمة حدث شيء عجيب .. فوجئ الثوار بالنار تطلق على الداورية الإنجليزية فتحصد رجالها .. ثم تتجه إلى المدافع الثلاثة المصوبة على الخزان فتسكتها جميعا .. بعد قتال رهيب .. وذهل الناس من الذى كان يطلق النار .. أنه ليس فى صفوف الثوار ..
وعندما هبط رشوان ببندقيته من فوق النخلة ..
كان العلم الأبيض يرتفع على الهويس ..
وكان الثوار يتقدمون مع قرع الطبول .. ليحتلوا آخر معاقل الإنجليز فى مدينة أسيوط ..
***
       ولما جاءت عربة الإسعاف لتحمل البطل الجريح إلى المستشفى .. رفض رشوان أن يحمل على المحفة .. سار على قدميه والدماء تنزف منه بين صفوف الثوار ..
       وكانت بندقيته الرهيبة على كتفه ..
============================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 89 بتاريخ 2/9/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
===========================

حادث فى القرية

        اشتعلت الثورة المصرية فى سنة 1919 فجأة فى طول البلاد .. وتعطلت المواصلات وتقطعت السكك الحديدية .. وتوقفت الأعمال فى كل مكان وشغل الناس بحرب الإنجليز عن كل شيء ..
       اشتعلت الثورة فجأة دون إنذار وروع الناس من وقع المفاجأة .. وكان أكثرهم ترويعا عبد السلام .. فقد وجد نفسة بعد أن تقطع الخط وأخرج من القطار هو وزوجته وابنته بديعة فى قرية صغيرة فى الصعيد لا يعرف فيها أحدا والرصاص يئز فوقه وبجانبه .. فسار بأسرته كما اتفق .. وقرعوا باب أول بيت صادفهم فى القرية ..
       وكان صاحب البيت من الفلاحين الطيبين فآواهم وأكرمهم وتلقاهم بالترحيب .. تلقاهم بطابع العربى وخلقه دون أى اعتبار للشعور الوطنى الذى عبأته الثورة ..
       وكان الرجل من متوسطى الحال فى القرية .. أولاده يزرعون فى الغيط ويأتون بمحصول جيد وزوجته سكينة من أحسن الزوجات .. فلم يشعر بأى ضيق لوجود أسرة عبد السلام فى بيته ..
       وطالت أيام الثورة وظل عبد السلام ضيفا على الشيخ عبد الرحيم فى قرية بنى تمام .. وكان عبد السلام سائقا فى مصلحة السكك الحديدية .. وكان فى طريقه الى القاهرة هو وأسرته عندما تعطل الخط ، ولم يكن عبد السلام فلاحا ولا يحب الفلاحة فلم يجد ما يعمله فى هذه القرية الصغيرة وكانت النقود التى معه قليلة .. فشعر بالضيق من الفراغ والبطالة وخشى أن يقترض ثمن السجائر ..
       فلما سمع أن الثورة هدأت فى القاهرة أحس بالراحة .. وعلم أن القطارات ستسير .. وكل الأعمال والمرافق ستعود إلى حالتها .. فقرر أن يسافر وحده إلى القاهرة فى مركب .. ثم يأتى بعد ذلك ليأخذ أسرته متى اطمأن على الحالة ..
***
سافر عبد السلام .. وبقيت زوجته وابنته .. وديعة عند الشيخ عبد الرحيم وكانت بديعة فتاة فى الثامنة عشرة من عمرها .. ورثت طباع أمها القاهرية وفيها جمالها .. وكان لها صوت حلو يأخذ بالألباب .. فبعد أن يخرج الشيخ عبد الرحيم ولا يبقى فى البيت رجال .. كانت تغنى لنفسها بصوت حنون أخاذ .. حتى عرفت فى القرية بأنها أحلى النساء صوتا .. وكان للشيخ عبد الرحيم ولدان كبيران وبنت صغيرة ..
وكان ابنه إسماعيل وهو الأكبر فى الحادية والعشرين من عمره .. طويل الجسم قويا .. وفيه غلظة فى الطباع وخشونة .. وكان أميا لم يدخل حتى الكتاب .. أما إبراهيم فقد دخل مدرسة القرية ثلاث سنوات كاملة ثم ذهب إلى الحقل .. وكان على عكس أخيه رقيقا .. حلو .. الشمائل .. وكان الشيخ عبد الرحيم يحبه أكثر من أخيه ويضع فيه كل الآمال ..
وكانت أسرة عبد الرحيم تعتبر بديعة وأمها ضيفتين مهما طالت الأيام .. ولكن الضيفتين لم تقبلا أن تقعدا دون عمل منذ الأسبوع الأول .. فكانتا تعينان سكينة زوجة الشيخ عبد الرحيم فى عمل البيت .. فى العجين والخبيز وخبزت وداد لأول مرة العيش المصرى فسرت به الأسرة كلها وأكلته كأنه كعك العيد ..
أما بديعة فكانت تصحو قبل الشروق لتكنس البيت وترشه ثم تعلمت كيف تحلب البهائم وتقدم لها العلف .. وفى أقل من شهر أصبحت قروية أصيلة وتطورت بها الحياة حتى أصبحت تخرج بالطعام إلى الغيط ، تحمل العشاء للشيخ عبد الرحيم وأولاده فى الحقل ..
***
وطالت الأيام وبقيت الحالة فى القاهرة متوترة .. وظلت وداد وابنتها بديعة عند الشيخ عبد الرحيم .. وكان عبد السلام يرسل لهما الأخبار .. ويطمئنها على أحواله ويشكر الشيخ عبد الرحيم مع كل رسول .. ويقول لهما أنه سيأتى قريبا ليأخذهما ..
وكان بيت الشيخ عبد الرحيم من طابقين ، وفى الطابق الأول كانت الأسرة تخزن الغلال وحاجات البيت .. وفى هذا الطابق كان يوجد باب صغير يفضى إلى حوش البهائم .. وفى الطابق الثانى كانت الأسرة عدا إسماعيل .. فإنه كان ينام فى مجاز البيت ليحرس البهائم .. وكانت الست سكينة قد أفردت قاعة خاصة لوداد وابنتها .. وكان الشيخ عبد الرحيم يحافظ عليهما ويحرص على راحتيهما ..
ولم يكن أحد من رجال القرية يستطيع أن يدخل بيت الرجل وهو غائب عنه ..
وكان إسماعيل وإبراهيم يعاملان بديعة كأنها أختهما .. وكانت الفتاة رقيقة حلوة تميل إلى الطول .. وأقرب الى النحافة .. وكان الغلامان يريانها وهى جالسة فى شمس الصباح تسرح شعرها .. أو تحوك ثوبها .. أو تحرك النار فى الموقد .. أو تحمل صينية الشاى للوالد أو جالسة أمام الفرن .. أو مشمرة عن ثوبها .. لترش فناء الدار ..
وكانت تتحدث باللهجة المصرية .. وتضحك من بعض الكلمات الصعيدية التى لا تفهم معناها ..
وكانوا يسمعونها أحيانا تغنى وهى جالسة وحدها .. وكأنها تناجى أباها البعيد فى القاهرة فقد كانت عيناها بعد كل أغنية تشرق بالدمع ..
وكان إسماعيل وهو راقد فى الفناء يصحو على صوت أمه وهى ذاهبة إلى الحوش لتحلب البهائم .. ساعة الفجر .. ومعها بديعة .. وأحيانا يرى بديعة ذاهبة وحدها .. وبيدها المصباح البترولى .. ويرى ظل المصباح وهو يتحرك فى يدها ، وكان يتناوم .. ليمتع نفسه بجمالها وحسنها دون أن يزعجها ، وكانت إذا أحست به متيقظا تجفل استجابة لطبيعة الأنثى وخلق العذراء ..
وكان هو وإبراهيم يحادثانها كأخوين ويتناولان من يدها الطعام والشراب .. وترى فى عيونهما نظرات المودة ولكن ابراهيم كان فى نظرها أكثر أدبا بطبعه .. أما إسماعيل فكان يخشى فقط عصا أبيه ..!!
***
       وذات مساء .. حملت بديعة العشاء للشيخ عبد الرحيم فى الغيط وعندما حملت الملقط لتعود إلى القرية قال الشيخ عبد الرحيم لأبنه إسماعيل :
-       فوت أختك من الكلاب ..
وسارت معه وحدها فى الليل .. ووجدته يتخذ طريقا لم تألفه ..
-       فوتنا من هنا ليه .. دى سكة بعيدة ..؟
أبدا دى أقرب .. عاوز أملالك أسط برتقال من جنينة سرحان ..
-       تسرقه ولا تشتريه ..؟
-       المسألة دى مش مهمة .. نملا إسط وخلاص ..
-       يا باى ..!
ولما اقتربا من البستان .. وجدا ترعة صغيرة أمامه ..
-       تعرفى تخوضى ..؟
-       أنا حستنا هنا ..
-       مسيبكيش فى الليل فى الحتة دى وحدك ..
-       كل الناس عارفانى .. نازله فى بيت الشيخ عبد الرحيم ..
- أبدا فى الليل محدش يعرف حد .. وحملها بسرعة وخاض بها الترعة ، ولما وضعها على الأرض صمتت وكانت تسبه بصوت خافت ..
ولما دخلا البستان لم يجدا فيه أحد .. وأجلسها تحت شجرة وغاب فى جوف البستان يقطف الثمار .. وشعرت بعد أن بارحها بالخوف .. من الليل ومن الظلام .. وكانت تسمع كلاب القرية البعيدة تنبح .. وفى أطراف الحقول ورجع وهو يقول :
-       نمت ..؟
وكانت جالسة القرفصاء .. وترجف من الخوف ..
-       مالك ..؟
ووضع يده على ذراعها .. ولما نظرت إليه وجدت فى عينيه نظرة غريبة لم تألفها .. نظرة وحشية .. وتراجعت قليلا إلى الوراء وهى تنهض .. ولكنه كان قد طوقها وعصرها وألقاها على أوراق الأشجار المتساقطة ..
وعندما حملت الملقط تساقطت منه كل الثمار التى قطفها ، وتركها وحدها تعود إلى البيت وكانت تود أن تمضى وحدها فى الليل وتسير على الجسر الطويل إلى عوالم وقرى لا تعرفها .. بعيدا بعيدا عن كل الرجال وكل الوحوش .. ولكنها وجدت نفسها فى البيت .. ونامت وهى تبكى ..
***
ومرت الأيام فى سكون .. ولم يحس بما حدث أحد .. وسارت الحياة المألوفة فى البيت .. ولكن وداد لاحظت أن حالة ابنتها تغيرت من المرح إلى السهوم .. ومن الهدوء إلى القلق .. ولم تعد تراها تغنى وتناجى أباها كلما جلست وحدها .. ولما سألتها عن السبب .. بكت الفتاة .. سكبت عبراتها الساخنة وروعت الأم من البكاء .. ولما لاحظتها بعينيها وتحسستها بيديها .. ضربت على قلبها .. وصرخت .. وعرفت من ابنتها ما جرى .. وأخذت تبكى معها وسمعت منها " سكينة " أم إسماعيل الأمر .. فارتجفت وخافت أن يعرف الشيخ عبد الرحيم فيقتل الغلام ..
واتفقت النسوة على كتمان الخبر عن كل الناس .. حتى يجدن الفرصة للخلاص من الجنين .. وبعدها يتنفسن الصعداء ..
ولكن الشيخ عبد الرحيم علم بالخبر من .. تهامس النسوة .. ومما لاحظه على الفتاة ، فلما تأكد انتفض كأنما أصابه سيخ من نار .. وتناول بندقيته وعلى وجهه سحنة الأسد وقال لزوجته .. وهو يضع العباءة على كتفه ..
-       فين ولدك ..؟
-       بايت فى الطاحونة ..
- كدابة .. أنا عارفه فى الغيط .. كدابة وفاجرة زيه .. لا يمكن يكون دا ولدى يا فاجرة .. لا يمكن ..
واستنددت الأم على عضد الباب وهى ترتجف وتبكى ، وحاولت منعه من الخروج ، فدفعها دفعة قوية .. وهوت على الأرض .. مغشيا عليها ..
***
       ووجد عبد الرحيم ابنه إسماعيل فى الغيط فسأله وهو يقترب منه :
-       عملت إيه فى بنت الناس .. يا كلب ..
-       معملتش حاجة .. يابوى ..
وجرى الغلام إلى ساحل النيل .. وألقى بنفسه فى الماء .. وجرى عبد الرحيم وراءه وأطلق عليه النار .. واختلط صوت الرصاص مع صوت وابور نيلى كان قادما يصفر ويشق التيار ..
***
وعندما رجع عبد الرحيم إلى البيت ووضع البندقية فى جرابها نظرت إليه زوجته فى هلع :
-       فين الواد ..؟
فلم يرد ..
    ـ موته .. تقتل ولدك .. حرام .. تروح فين من ربنا ..
وعاجلها بضربة قوية على فمها فسال دمها ..
***
       لم ير الناس إسماعيل فى القرية بعد هذه الليلة .. ولكن الشيخ عبد الرحيم لم يشعر بالراحة التامة فإن وجود الفتاة بحالها فى بيته كان يروعه .. ويطير عقله .. وكان يريد أن يمزق نفسه تمزيقا بسكين ولا يرى وجه عبد السلام عندما يعود من سفره فيجد ابنته التى تركها عنده أمانة .. حبلى .. ومن الذى فعل بها هذا .. ابنه .. ياللعار .. ولم يكن قتل الغلام قد حل المسألة .. بل زادها تعقيدا ..
       وكان إبراهيم يلاحظ ما يعانيه والده من عذاب وقلق فتقدم وطلب من والده أن يسعى ليزوجه من الفتاة قبل أن تشيع الفضيحة فى القرية وتنزل اللعنة على الأسرة ويصبحوا معرة الناس فى الصعيد ..
       وسر الوالد من خلق ابنه وحدث أن جاء عبد السلام .. ليأخذ أسرته ولما عرضوا عليه زواج ابنته قبل وسافر بزوجته .. وداد .. وبقيت بديعة فى بيتها الجديد ..
***
       ومرت عشرة أعوام .. ومات إبراهيم بالحمى .. ولكن بديعة بقيت فى القرية .. ومرض الشيخ عبد الرحيم مرض الموت .. والتفت أسرته حوله وسمعت الأسرة صوت الأم تقول وهى واقفة على باب المريض :
-       ادخل يا ابنى وسلم على أبوك ..
ودخل إسماعيل من الباب .. ونظرت إليه الأسرة فى عجب .. وكان قد غيرته السنون ..
وفتح الشيخ عبد الرحيم عينيه ولما رأى وجه ابنه إسماعيل عرفه وأشاح عنه ..
-       سامحه .. يا عبد الرحيم .. سامحه ..
-       أخرج ..
-       سامحه .. قبل ايد أبوك يا إسماعيل ..
وجثا إسماعيل على ركبتيه بجانب فراش أبيه .. ودار المريض بعينيه يبحث فى الوجوه التى حوله حتى استقر على وجه بديعة .. ونظر إليها طويلا .. وعرف من عينيها أنها غفرت ونسيت ..
فربت بيده على كتف ابنه وانحنى هذا عليه يغمر يده بالقبلات ..
وبدأ السرور على الوجوه .. فقد وجدت الأسرة رجلها .. بدل الرجل الذاهب ..



============================ 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 220 بتاريخ 12/3/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================ 






البطل

       جلست على قهوة قرب الخزان فى قرية الوليدية بأسيوط .. انتظر الشيخ أحمد وكان قد ذهب يبحث لى عن مركب من بلدتى تقلنى إلى الجزيرة .. بعد أن رفض أصحاب المراكب التى فى " الموردة " الإقلاع فى هذا الطوفان .. وكان النيل فى الصيف الماضى فى الذروة .. والتيار على أشده .. والمراكب الذاهبة غربا لا تعود ..
       وكان علىَّ أن أذهب إلى الجزيرة فى تلك الساعة بأى سبيل وإلا ضاعت الحقول كلها وغرقت ..
       وعاد الشيخ أحمد وقال لى أنه لم يجد أى " مراكبى " من بلدنا ولكنه وجد الريس حمدان .. ومعه مركب جديد مستعد بالقلاع والمجاديف وهو أصلح المراكب للسفر فى هذا الفيضان .. ولكن الرجل رفض رغم أنه أجزل له العطاء ..
       فنهضت من القهوة وذهبت إلى هذا الرجل لأحاول إقناعه ليبحر .. ولكنه أصر على الرفض فتحولت عنه وأنا أسبه ..
       وفى تلك اللحظة سمعت من يقول :
       ـ انزل يا حمدان .. وحل ..
       وتلفت ورائى فوجدت رجلا ينحدر فى الطريق ويتقدم نحونا .. وكان يرتدى جلباب أسمر .. وعلى رأسه لبدة وكوفية اعتجر بها .. وكانت دقنه بيضاء قصيرة .. وعيناه حادتين براقتين .. وأنفه أنف صقر ، وملامح وجهه جملة هادئة ساكنة تدل على أعصاب من حديد ..
       وكان فى صدغه الأيمن أثار جرح قديم .. وكان ذراعه الأيمن مقطوعا كله .. وفى كتف هذا الذراع وضع بندقية قصيرة ..
       ونزل المراكبى ومد السقالة وأخذ يفك الحبال ويسحب الهلب وظل الرجل واقفا على الساحل يرقبنا ويتمنى لنا السلامة حتى تحركت المركب وابتعدت عن الموردة ..
       ولما أصبحنا فى وسط النيل سألت الشيخ أحمد ..
       ـ من الرجل الذى فعل لنا هذا المعروف ..
       ـ عمك نصر الدين .. ألم تره قبل الآن ..؟
       ـ هذه أول مرة ..
       ـ أنه صديق لوالدك من عهد بعيد ..
       ـ من الوليدية ..؟
       ـ لا ... من عرب الشرق .. ولكنه عاش هنا .. من زمان وبيزرع زراعة عال .. وعنده وابور ميه ومبسوط ..
       ـ وذراعه مالها ..؟
       ـ هذا .. من أيام الإنجليز .. من سنة 1919 .. والشيخ نصر الدين .. هذا العجوز الذى رأيته الساعة .. كان بطلا من الأبطال فهو الذى فتح الخزان وحده .. وجعل العرب تمر بالسلاح والطبول .. رجل لا مثيل له ..
       وكنا قد بعدنا عن الخزان بمقدار مرحلة واحدة بالمركب .. فسألت الشيخ أحمد :
       ـ وهل كان الإنجليز يحتلون هذه المنطقة ..؟
       ـ أجل .. وهناك فى غرب هذا الخزان الذى أمامك .. بدأت المعركة بيننا وبينهم .. وكان الإنجليز يعسكرون فى المنتزه وفى المدرسة الثانوية .. ويطلقون النار فى كل اتجاه ..
       ولما شعروا بأن الثورة انتقلت من أسيوط إلى الشرق .. وأن العرب تحركوا من هناك لقتالهم .. نصبوا المدافع الرشاشة على الخزان ... وفتحوا الطبلية .. حتى يقطعوا الصلة بين الشرق والغرب ويمنعوا المدد .. وكان نصر الدين .. من الثوار الذين يقاتلون منذ بدأت المعركة فى قرية الوليدية .. ورأى المدافع الرشاشة منصوبة على الخزان .. والكمين الذى أعده الإنجليز ليحصدوا به كل من اقترب من الهويس ..
       فتسلل وحده .. بين الحجارة التى كانت تستعمل فى ترميم الخزان .. حتى اقترب من المدافع الرشاشة .. وأخذ يقاتل حتى أسكتها .. مدفعا .. مدفعا ..
       وفتح الكوبرى ومرت الجموع تقرع الطبول .. ولكنه فقد فى هذه المعركة ذراعه ..
       وصمت الشيخ أحمد وأشعل لفافة ..
       وأخذت أفكر فى ثورة 1919 .. وفى الأبطال المجهولين الذين لا يعرفهم إنسان .. ولا يذكرهم تاريخ ..
       حتى اقتربنا من الجزيرة ..
***
       وعدت بعد ثلاثة أيام إلى أسيوط .. عن طريق آخر .. وكنا فى الغروب والسيارة تسرع قبل الظلام ..
       وقبل أن تدخل القرية .. صدم السائق جاموسة فكسر ساقها وخاف من الأهالى فلم يتوقف .. ولكن الفلاحين أطلقوا علينا الرصاص وخرجوا بهراواتهم من الحقول واعترضوا طريق السيارة .. فوقفت وتجمعوا حولنا ليقتلونا .. وهم لا يميزون السائق من الراكب .. وفقدنا الأمل فى الحياة .. ولم يكن هناك أى سبيل للتفاهم فقد كان الفلاحون فى ثورة عاتية ..
       وفى تلك اللحظة الحاسمة .. برز شخص من وسط الناس .. وكان نصر الدين .. وأمر هذه الجموع أن تتفرق .. فانصرفوا جميعا صاغرين .. وركب معنا السيارة حتى خرجنا من القرية .. وأصبحنا آمنين .. ثم ودعنا وانصرف ..
       وقلت للشيخ أحمد :
       ـ لماذا يفعل نصر الدين من أجلى كل هذا ..؟
       فقال وهويبتسم :
       ـ لأن والدك .. فى ثورة سنة 1919 .. أنقذه من المشنقة ..
============================ 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 483 بتاريخ 2/5/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
=========================== 


جهة الاختصاص

       دخلت أم عبد الصبور مبنى إحدى الوزارات الضخم .. وكان لا يزال على حاله كما بناه إسماعيل المفتش .. ومرت من البوابة الكبيرة إلى دهاليز الوزارة وأروقتها .. وتاهت عيناها فى سراديب ملتوية ومئات من اللافتات .. وجيش ضخم من الحجاب والسعاة والفراشين .. ولم تكن تعرف القراءة .. وكان دليلها ورقة صغيرة حملتها فى يدها من وزارة الصحة .. كتبها لها الموظف الذى عنده الأوراق .. أوراق ابنها عبد الصبور الذى قتلته عربة من عربات قسم الأوبئة منذ أربع سنوات عند ترعة المنصورية ..
       وظلت تتردد على وزارة الصحة بعد أن حكم لها بالتعويض .. وتنتقل من مكتب إلى مكتب سنة كاملة .. لتعرف مصير الأوراق .. وكان جسمها المحطم يعانى كل ضروب الحرمان والشقاء والجوع .. فقد كان ابنها عبد الصبور هو عائلها الوحيد مطعمها ومكسيها .. ودافع عنها كل مصائب الحياة ..
       وكانت وهى تذهب كل يوم إلى تلك المكاتب التى تراكمت عليها الأوراق تستمطر اللعنات على كل من تضمهم حجرات هذه الوزارة .. وكل من يدخل فيها ويخرج منها .. فقد حيروها وطيروا لبها .. وجعلوها تكتب الطلب المدموغ أكثر من عشرين مرة ..
       وفى كل مرة كانت تسمع هذه الكلمات تتردد على كل لسان :
ـ طلبك ضاع .. اكتبى غيره ..
    وطلبوا شهادة الوراثة .. وشهادة الوفاة كأنهم لم كونوا هم الذين قتلوا ابنها وبعد أن جاءت بهذا كله وحفيت قدماها وهى تروح وتجئ .. حولوا الأوراق إلى وزارة أخرى ..
       فدخلت أول يوم هذه الوزارة الجديدة وهى تتنفس الصعداء مستبشرة بقرب الفرج وإذا بها تعرف بعد الشوط الثالث أنها استجارت من الرمضاء بالنار .. فقد عادوا يطلبون بيانات جديدة ، ويستوفون الطلب ويعيدون الأوراق لأتفه سبب وكلما جاءت الأوراق يردونها لسبب لا تعرفه ..
       وطار عقلها وعادت تسترجع ما فات .. وتتذكر أنها عندما جلست إلى الكاتب العمومى فى شارع البرلمان .. ليكتب لها أول طلب قدمته لصرف التعويض .. قال لها الرجل :
ـ هات يا سيدتى خمسين قرشا .. وأنا أجئ لك بالنقود .. بعد أسبوع واحد ..
ولكنها اعتذرت وقالت للرجل :
ـ أنا فقيرة يا بنى .. ومسكينة .. ولو فرض وكان معى نقود .. فأنا لا آخذ حقى بالرشوة .. ولكنها أدركت الآن بعد أن غرقت فى هذه الدوامة .. أنها أخطأت .. وكان عليها أن تحصل على هذه القروش وتعطيها للرجل حتى تتخلص من هذا العذاب .. فقد عادت الأوراق تدور مرة أخرى فى ( ساقية جحا ).. ترسل من جهة إلى جهة .. وأم عبد الصبور المسكينة تجرى وراءها حتى تقطعت أنفاسها .. 
       وأعيدت الأوراق للمرة الأخيرة إلى الصحة .. وكانت كلما دخلت الوزارة .. وسألت عن أوراقها .. يرسلونها إلى شخص اسمه عبد السلام أفندى .. وكانت كلما قابلته تسترحمه وتستعطفه وتستحلفه بالله .. وتكاد تقبل قدمه .. لينجز لها طلبها .. ولكنه لم يكن يفعل لها أى شيء .. وكانت لا تسمع منه إلا الوعود والأكاذيب .. فكرهته وأصبحت تنفعل كلما رأت وجهه .. وفى ساعة غضب شتمته وسبته وخرجت تهرول فاحفظه هذا عليها وأخذ يعطل لها الأوراق متعمدا ..
       وساءت الأحوال حتى أصبح بينهما عداء مستتر .. وكان كلما وقع نظرها عليه ترتعش من الغضب ..
       وقال لها الكاتب العمومى الذى يكتب الشكاوى :
ـ اشكيه للوزير .. ولمكتب الشكاوى ..
ومرت الشكوى من المكتب إلى الوزارة .. ومن الوزارة إلى الوكالة .. ومن الوكالة إلى الإدارة العامة ومن الإدارة العامة إلى القسم المختص ومن القسم المختص إلى عبد السلام أفندى الموظف المختص .. جهة الاختصاص ومحور الدائرة والعمود الفقرى الذى تدور عليه هذه الساقية ..
لقد عادت الأوراق مرة أخرى إلى هذا الجاهل الأحمق ..
ودخلت أم عبد الصبور مبنى الوزارة بعد أن قدمت الشكوى .. وفى قلبها .. أمل .. أمل جديد .. ومرت على الأرشيف .. ثم من مكتب إلى مكتب .. ثم أشاروا لها إلى حجرة منزوية ..
ولما فتحت الباب وجدت شخصا فى وسط الحجرة يجلس إلى مكتب قديم وعليه أكداس من الأوراق .. وكانت تعرفه جيدا وتكرهه كرهها للشياطين ..
وكان هو عبد السلام أفندى بعينه ..
وسألته وهى ترتجف :
ـ هل الورق جاءك ثانيا .. وعندك إنت ..؟؟
ـ نعم .. يا ستى .. أنا المختص ..
وتركته وخرجت متخاذلة تجر رجليها جرا دون أن تلفظ بكلمة .. فلم تكن تعرف المسكينة أن مصيرها كله معلق فى جهة الاختصاص ..



=========================== 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 188 بتاريخ 15/6/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================











فى عيادة الطبيب

       جلس عبد المعين وزوجته أنيسة ومعهما طفلهما الصغير فى عيادة طبيب الأطفال فى انتظارالطبيب .. وكانت العيادة مزدحمة والطبيب المشهور يتأخر دائما عن موعد العيادة ساعة وساعات .. ولعله كان يجد لذة عظيمة فى ترك الزوار منتظرين فى لهفة وقلق .. وكان قد أعد غرفة خاصة لزواره من الأثرياء وكتب عليها لافتة " خصوصى" أما باقى رواده من الشعب فقد جلسوا فى غرفة فسيحة أثاثها قديم باهت .. وعلى المساند الغبار .. وفى جو الغرفة رائحة الطباق الخانق فقد كانت المنافذ كلها مغلقة والأطفال يتصايحون .. والرجال يسعلون والأمهات يهدهن الرضع بصوت مرتفع .. وكان الزوار يسألون التمرجى من حين إلى حين :
       ـ متى يحضر الطبيب ..؟
       وكان هذا يجيب فى حركة رتيبة من رأسه :
       ـ حالا ..
       وأخيرا جاء الطبيب .. وابتدأ بمرضاه الخصوصيين ومضت ساعة .. وساعات .. وعبد المعين وزوجته وطفلهما جالسان فى ركن منزو فى القاعة لا يفكر فيهم إنسان وكان كلما أشار للتمرجى ليأذن له بالدخول على الطبيب .. أشاح عنه بوجهه ونظر إليه فى احتقار ..
       وكان عبد المعين قادما من شبين الكوم ، وتحمل مشقة السفر هو وزوجته لإنقاذ ابنه وكان ابنه مريضا بالكساح وفى حالة ميئوس منها ، وقد عرضه على أطباء كثيرين فى الريف فلم ينفعه منهم أحد وأخيرا سمع بهذا الطبيب المشهور فسعى إليه وعلق عليه أملا كبيرا ولكن ها هو جالس الآن فى عيادته مهمل محتقر لأنه فقير ولأنه مسكين .. فما يستطيع أن يرشو التمرجى ببضعة قروش كما يفعل غيره ليدخل فورا .. ولا يستطيع أن يدفع للطبيب جنيهين ليدخل مع " المخصوص " ..
       ومضت ساعات من الليل وهو جالس مكانه يتحمل عذاب الانتظار وألمه .. وعذاب النظر إلى طفله المريض وزوجته المسكينة .. وأخيرا قال للتمرجى :
       ـ اعمل معروف دخلنى .. أنا قادم من شبين ..
       ـ يا حبيبى إنك ترى بعينيك أن الدكتور يشتغل على الخصوصى الآن .. أن كنت مستعجل تعال بكره .. البيه هذا قاعد مثلك من زمان .. والست هذه كذلك ..
       ـ أنا قادم من شبين ..
       ـ ليس هذا ذنبى ..
       وصمت عبد المعين .. ومرت ساعة أخرى .. ورائحة الدخان الخانق تملأ جو الغرفة .. وبكاء الأطفال يشتد .. وكان طفله على صدر زوجته شبه ميت فلم يكن يتحرك أو يصيح كبقية الأطفال فى الغرفة .. وكانت أنيسة جالسة فى صمت وسكون .. وقد أخذتها رهبة المكان فهى لأول مرة تجلس فى عيادة طبيب فى العاصمة ولأول مرة تجئ إلى القاهرة ، وكانت مع فقرها ورقة حالها أكثر الجالسات فى الغرفة جمالا وجاذبية ..
       ولما جاوزت الساعة التاسعة ليلا .. رأى عبد المعين بعض الزوار الفقراء يحملون أطفالهم ويخرجون من العيادة قبل أن يدخلوا على الطبيب فسأل التمرجى :
       ـ اعمل معروفا..
       ـ لا .. فائدة من هذا الكلام تعال بكره أحسن لك ..
       فأخذ بيد زوجته وخرج من العيادة .. واتخذ طريقه إلى حى الحسين .. فقد كان يسمع أن هناك فنادق رخيصة فى هذا الحى ..
       ووصلوا إلى الحى .. وأخذتهم الأنوار البراقة فى الحوانيت .. وكانت المقاهى مزدحمة بالجالسين والشوارع مكتظة بالناس كأنه وضح النهار .. ومروا بجوار مسجد الحسين ووقف عبد المعين يدعو ويسترحم .. وساقتهم يد خفية إلى الباب الخلفى للمسجد .. وما لبثوا أن وجدوا أنفسهم وسط جمع من المشعوذين والدجالين وقانصى الفرص الذهبية .. وكانت بداية أيام المولد .. وكان هناك أناس يذكرون فى الساحة .. وآخرون يجلسون على المقاهى الصغيرة المتناثرة فى أرض المكان .. وكان هناك نسوة جالسات على الأرض .. يلبسن البياض والسواد .. يتسولن .. أو يصحن بالدعوات الصالحات .. أو يرقبن المارة فى صمت ..
       وجلس فى ركن مظلم شيخ عجوز وقور .. وكان بجانبه عصا طويلة وحراب فيه متاعه وفراشه .. وكان قد تربع على الأرض وأخذ يطوح برأسه يمينا وشمالا فى عنف ويقول فى خلال ذلك كلاما لا معنى له ..
       ووقف عبد المعين وزوجته أمامه ، ونظر إليهما الشيخ بعينيه البراقتين النفاذتين .. وقال عبد المعين وهو يتوسل فى ضراعة :
       ـ اقرأ لنا الفاتحة يا سيدنا الشيخ ..
       فنظر إليه الشيخ وتمتم .. ثم مد يده ومسح على كتفه وسر عبد المعين لهذه الحركة المباركة وسرت أنيسة .. وعلما أن الشيخ راض عنهما ..
       ورأى الشيخ الطفل فأمسك بيده الصغيرة ونظر إليه بقوة وأخذ يتمتم .. ثم أشار لهما بيده إلى حارة ضيقة بجوار الطريق .. وظل يشير وظل صامتا لا ينبس .. واتجه عبد المعين وزوجته إلى حيث أشار .. حتى اقتربا من بيت أضيئت على بابه الأنوار .. وكان هناك نفر من الناس جالسين على الدكك فى الخارج ورجل يدور عليهم بالمباخر .. وأخرون ينقرون على الدفوف .. ورجال فى حلقة ذكر .. وصوتهم يرعد فى الجو وكان هناك نسوة جالسات فى مدخل البيت وفى غرفة داخلية تحجبهن عن الأنظار ..
       وأجلس رجل واقف على الباب عبد المعين على الدكة فى الخارج .. وأدخل أنيسة إلى الداخل .. فدخلت وجلست مع النساء وعلى صدرها الطفل ..
       وقالت لها امرأة من الجالسات :
       ـ جيت تزورى سيدنا الشيخ ..
       فهزت رأسها ولم تفهم شيئا وظلت جالسة أكثر من ساعة مع النساء .. وكانت تراهن يدخلن منفردات إلى غرفة داخلية مظلمة ويمكثن فيها مدة .. ثم يخرجن .. وكان الجو يعبق برائحة البخور المتصاعد من المباخر .. والنساء جالسات فى صمت والرجال يذكرون .. ويدمدمون فى الخارج ..
       وكان أحد أتباع الشيخ يصيح بين فينة وأخرى " وحدوه " ..
       وبعد ساعة أمسك رجل بيد أنيسة وأدخلها على الشيخ فى غرفته المظلمة ، ودخلت تحمل طفلها على صدرها ، وخرجت بعد فترة طويلة شاحبة الوجه منكسة الرأس ..
       وحمل عنها عبد المعين الطفل ومشيا فى صمت باحثين عن فندق فى ذلك الحى الملئ بالأسرار ولما اقتربا من المسجد .. وقف عبد المعين مرة أخرى يدعو ويسترحم ، ووقفت أنيسة مثله .. تدعو وتطلب فى سرها من سيدنا الحسين أن ينتقم لها من الدجال الذى دنس عفافها ولوث شرفها لأول مرة فى حياتها ..


============================ 
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 23/1/1951 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
============================













انتقام

       خرج سعيد وجارته ثريا فى يوم من أيام الربيع إلى حديقة من الحدائق العامة للتنزه وكانت هذه المرة الأولى التى تخرج فيها معه ، فقد كانت من أسرة محافظة ولا تستطيع مغادرة المنزل وحدها .. وكان سعيد يحبها وكلما طلب مقابلتها اعتذرت وفى قلبها من الشوق إليه أضعاف ما به ..
     وأخيرا أتيحت لها الفرصة فقد ذهب أهلها إلى جنازة فى الريف .. وبقيت وحدها مع الخدم فى المنزل ..
       وفى الضحى أشارت إلى سعيد من النافذة .. والتقيا .. وكانت الحديقة خالية كما قدرا ، فجلسا على دكة خشبية يتحدثان ويتناجيان ونظر إلى عينيها الصافيتين البراقتين وأمسك بيدها .. وتركها فى يده وشعرت بخدر لذيذ وأحست كأن الدنيا تدور بها .. وبعد قليل أحسا برغبة مشتركة فى أن تلتقى الشفاة فى قبلة ..
       ورأى مكانا ظليلا تحت شجرة كبيرة بعيدا عن المارة فنهضا إليه وجلسا على الحشائش ، وشعر برغبة تحمله على أن يتمدد ويضع رأسه فى حجر ثريا وهى جالسة ، ولكنه ما هم بفعل ذلك حتى سمع صوتا مزعجا يصيح به :
       " ممنوع النوم على " الحشيش " يا أفندى .."
       فتلفت مذعورا فوجد جندى الحديقة يقف على رأسه فبقى فى مكانه جالسا حتى تحرك الجندى وبعد فى ممرات الحديقة .. فعاد سعيد يتمدد وكان على وشك أن يشد رأس ثريا إليه ويتناول منها قبلة سريعة ولكنه سمع نفس الصوت المزعج مرة أخرى ..
       " ممنوع النوم على الحشيش يا أفندى ..".
       ووجد نفسه يقول للجندى وقد شعر بالغيظ :
       ـ لماذا ..؟
       ـ الأوامر هكذا يا أفندى .. ممنوع ..
       فجلس كما كان وهو يغلى غيظا .. وكانت ثريا فى مثل غيظه فقد كانت تشتهى قبلة من حبيبها وضمه ..
       وظلا أكثر من نصف ساعة وهما يحاولان ذلك ولكن الجندى كان لهما بالمرصاد وكأنه مكلف بمراقبتهما وحدهما .. وترك ما سواهما فى الحديقة ، وقد جعلهما يشعران بالضيق والغيظ وقررا مغادرة الحديقة ..
***
       وفكرت ثريا فى الانتقام ..
وعندما اقترب الجندى كعادته وهو يتهادى فى مشيته ونظره إليهما .. فتحت حقيبتها فجأة فتناثرت منها بعض العملة الفضية والأوراق المالية الصغيرة على الأرض .. وقد فعلت ذلك عامدة ..
       وأخذ سعيد يساعدها فى جمع ما سقط .. وظلا على ذلك مدة .. والجندى يراقبهما بعين شرهة ..
       وأعادت ثريا النقود إلى الحقيبة ولكنها لم تقفلها وظلت ممسكة بها وهى مفتوحة ونظرها إلى الأرض متظاهرة بأنها تبحث عن شيء ..
       فسألها سعيد :
ـ ماذا حدث ..؟
ـ هناك خمسة قروش ضائعة ..
ورفعت صوتها حتى يسمعها الجندى ..
وسألها سعيد :
ـ فضة ..؟
ـ نعم ..
وغمزت له بعينيها ففهم ..
ـ دعيها ..
ـ يا شيخ ابحث جيدا ..
ـ لا لزوم لذلك فقد ضاعت بين الحشيش ..
ـ هيا ..
وغادرا الحديقة .. وعين الجندى تتبعهما حتى تواريا .. فأسرع يبحث فى كل مكان عن هذه القطعة الضائعة وظل يبحث أكثر من ساعة .. فلم يجد شيئا لأنه لم يكن هناك شيء ضائع ..
وكان يود من فرط الغيظ أن يخرج الناس كلهم من الحديقة مخافة أن يعثر أحدهم مصادفة على هذه القروش الخمسة ، وأن يمنع المرور حتى فى الشارع العام ، ولا يزال يبحث إلى اليوم عن هذه القطعة الفضية ..



========================= 
نشرت القصة فى كتاب " الغزال فى المصيدة " سنة 2002
=========================
 





   اسم القصة                       رقم الصفحة 
القرية الآمنة ......................       2
الطبيب     .........................     14
المشلولة  ..........................     21
المارد  ............................     32
الغزال فى المصيدة   .................  37
الياسمين ..................... .....    45
الأب  ....................     .......  49
فى المزاد  .....................        53
الليل والنهار  .......................   57
العودة   ............................   70
المحطة الجديدة     ..................  77
الهارب    ............................ 87
العملاق   ............................  94
فى الجبهة  .........................  101
الرجال   ...........................  104
حادث فى القرية  ...................  107
البطل   ............................  114
جهة الاختصاص    ..................117  
فى عيادة الطبيب   ................. 120
انتقام        ......................  124